مثلما كانت حياة الشابة التونسية لينا بن مهني غير تقليدية، كان وداعها كذلك. حمل جثمانها على أكتاف النساء، رفيقات النضال اللاتي شيعنها بالأغاني والزغاريد. كانت جنازتها معبرة عن الثورة، على كل شيء.
غادرت بن مهني الناشطة الحقوقية والمدونة والأستاذة الجامعية في 27 يناير الماضي، في وقت مبكر، وهي التي كانت تقول عن نفسها إنها كانت «شوكة في حلق كلّ ظالم». حزنت تونس على وفاة بن مهني التي خاضت في حياتها القصيرة معركتين قاسيتين في نفس الوقت، بإرادة الجبّارين. خاضت معركتها العامة ضدّ الدكتاتورية، وخاضت معركتها الخاصة ضدّ المرض الغادر. وهو أمر لا تقدر عليه إلاّ «بُنيّة تونسيّة».
هي التي قالت يوما «مؤلم أن يعتقد الجميع أنّك قويّ فلا يحسّون بألمك»، لكنها لطالما كانت قوية في نظر كل من يعرفها.
قال الزعيم اليساري حمة الهمامي يرثيها «غزال الشارد يغادرنا. الغزال الشارد، المتمرّد، العنيد، الحرّ، الذي لم يقدر على ترويضه لا وحش الأمس. ولا وحش اليوم. غادرتنا البنيّة التونسية، لينا الجميلة، الرائعة، الشرسة، الحاضرة في كل المعارك، منذ أن أخذت طريق الكرامة».
نافذة تونس على العالم
وُلدت بن مهني في العام 1983، للمناضل اليساري الصادق بن مهني، الذي عُرف بمعارضته لحكم الرئيسين السابقين زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة.
وهو أيضا أحد مؤسسي فرع تونس لمنظمة العفو الدولية. تشبعت منذ نعومة أظفارها بالسياسة وعالمها المتقلب، فاختارت أن يكون لها دور فاعل في المجتمع، إلى جانب عملها كأستاذة مساعدة في مادة اللغة الإنكليزية.
ارتبط اسمها بمدوّنة «بنيّة تونسية» التي أطلقتها في 2007 واستقطبت قراء عربا وأجانب. وتعتبر تلك المدونة «نافذة تونس على العالم»، إذ نقلت في سنة 2008 «انتفاضة الحوض المنجمي» التي مهدت لثورة 2011. وساهمت المدونة برفقة مدونين آخرين، في فك الحصار الإعلامي الذي كان مفروضا آنذاك على محافظة سيدي بوزيد، التي اندلعت منها شرارة الثورة.
وكانت أول المدونين الذين وصلوا إلى ولاية سيدي بوزيد بعد أن أضرم البائع المتجول، محمد البوعزيزي، النار في جسده احتجاجا على احتجاز السلطات المحلية عربته في 17 ديسمبر 2010.
يقول من يعرف «البنيّة التونسية» إن تلك الأوقات التي كانت تتخلى فيها عن كاميراتها وهاتفها المزود بخدمة الإنترنت، كانت لحظات نادرة، كانا يصحبانها أينما ذهبت، لعلها تستطيع أن تنقذ أحدا.
كتبت بن مهني لأعوام حول تجاوزات نظام بن علي قبل سقوطه، رغم الأخطار التي كانت تواجهها. وكانت تتنقل إلى عدة مدن مهمشة داخل البلاد لتكتب عن معاناتها في مدونتها التي نشرت عنها الشابة الراحلة في 2011 كتابا بالفرنسية بعنوان «بنيّة تونسية: مدونة من أجل ربيع عربي».
بعد الثورة أكدت أنه لو كان لديها اختيار العودة إلى الوراء لاختارت سنة 2011، ما بعد رحيل بن علي من تونس. قالت «لأنّني كنت سأتفادى أخطاء قمت بها وسأقوم بأشياء فاتني القيام بها. لم نحسن التصرف بعد هروب (الدكتاتور) بسبب نقص التجربة السياسية، ولم ننجح في ضمان الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة».
رُشحت بن مهني لنيل جائزة نوبل للسلام بمعية المدونة المصرية إسراء عبدالفتاح، والناشط المصري وائل غنيم. وفي عام 2013 اختارتها مجلة «أربيان بيزنس» ضمن أقوى 100 امرأة عربية. كما أدرجها موقع “ذي دايلي بيست” ضمن قائمة «أشجع مدوني العالم» التي تضم 17 مدونا.
كانت تقول عن معركتها الخاصة «أصبت بمرض مزمن منذ نعومة أظافري فحرمت من ممارسة حياة طبيعية لما تعلق الأمر بالتعرض إلى أشعة الشمس وممارسة الرياضة وغيرها من الأنشطة التي عادة ما تمارسها مراهقة في عمري. ولكنّني واجهت ما حلّ بي بالصبر وقوة العزيمة واخترت أن أهتمّ بأنشطة أخرى كانت أهمّها المطالعة والكتابة. وبعد أعوام أخرى فقدت كليتي فاخترت أن أواجه من جديد، وبفضل والدتي التي منحتني كلية عدت إلى ممارسة الرياضة والحياة بصفة طبيعية بل وخضت معارك منها ما كان ضد الدكتاتورية وبعضها ضدّ ظلاميين هددوني بالقتل».
لطالما اتهمت بن مهني من الإسلاميين بأنها صنيعة المخابرات الغربية وأنها لا تساوي شيئا في الثورة التونسية، واستماتوا في تصغيرها وتحقيرها. وكان من بين هؤلاء القيادي الإخواني طارق رمضان. وفيما حظيت بجنازة وطنية وشعبية وزفت بالغناء والتأبين المؤنث. ودفنت في مقبرة الشهداء حتى يذكرها التاريخ والأحياء، فقد دفن طارق رمضان حيا تحت أنقاض تهم الاغتصاب وخطاب النفاق والزيف، نسيا منسيا.
واجهت لينا بجسدها النحيل العليل عصيّ الأمن في مناسبات عديدة وفي نفس الوقت كانت تشرّف بلادها بميداليات رياضية وحصدت العديد من الجوائز العالمية في مجال الصحافة وحقوق الإنسان.
كانت تقول إن الفضل يعود إلى المرض الذي علمها الصبر والمثابرة وخاصة الرأفة بكل الكائنات. وفي السنتين الأخيرتين من حياتها تحديدا تعددت وعكاتها الصحية وأصبحت مهددة بفقدان الكلية المزروعة بعد أن تضررت لعدة أسباب لعلّ أهمها تهاون الدولة وعدم مراقبتها لأدوية تحوم الشكوك حول صلاحيتها.
أنا في بغداد
رفضت بن مهني مغادرة تونس للعلاج في الخارج رغم تعهد عائلتها بالإضافة إلى العديد من المنظمات وأصدقائها بالتكفل بمصاريف علاجها، حيث كانت دائما تقول «نعالج في بلادي مانيش خير من الزوالي» أي «لست أفضل من الفقراء».
كانت تقول «تونس التي أهوى، تونس التي أعشق حد الجنون. لا يمكنني العيش في مكان آخر». وفي نفس الفترة، اختارت لينا الابتعاد عن أي عمل سياسي، والتفرغ للعمل المدني، إذ كرست وقتها لمساعدة المعوزين والمرضى وتثقيف المساجين من خلال إنشاء مكتبات لهم.
طالبت البنيّة التونسيّة العرب بالتوقف عن ترديد كلمة «ديمقراطية». وطالبتهم بتطبيق مقولتهم «اطلب العلم من المهد إلى اللحد لأن العلم هو السبيل الوحيد للخروج من الظلمات»، وفق تعبيرها. أرادت أن تعيد «محمود درويش إلى الحياة لأن العالم عامة والعالم العربي خاصة محتاجان إلى شعره الآن ودائما».
آخر محاضرات بن مهني كانت في مهرجان أدب المرأة العربية الذي كان من المفروض أن يقام في العراق فاحتضنته تونس يومي 17 و18 يناير الماضي قبل أيام قليلة من وفاتها.
قالت حينها «عاطفيا وحسّيا أنا الآن ببغداد! صحيح أنّ شرّ البشرية قد حرمنا من أن يتمّ لقاؤنا ببغداد. والآن يحلو لي، لا بدّ لي، من أن أكلّمكم كما لو أنّني أتكلّم وأنا ببغداد نحن في تونس؟ فليكن. بغداد! مدينة السّلام، عليك السّلام وحالفك السّلم وغمرتك الطمأنينة. قيل لي وأنا أقبل على سفرتي: ألست ترمين بنفسك إلى التّهلكة… الوضع هنالك غير مستقرّ والموت في كلّ لحظة يفاجئك». أجبت «بغداد حبّ، وكتب، والخالدان دجلة والفرات، وطول النّفس، وصبر أيّوب، والحياة دائما تينع وتعيد تينع، من شقوق الصّخر وفي حفر القنابل وحيث يختبئ الفاسقون تينع. أبغداد، أنت لنا ومنّا. ونحن منك ولك». أضافت تتغنى ببلاد الرفدين «أنا لينا تربتي تربة الأمازيغ ونسغي من المتوسّط وما وراء المتوسّط ومن الصّحراء الأفريقيّة وما وراءها. لكنّ في سعفي وجريدي كما في جذعي وعروقي ما يشي، بل يعلم، أنّ بيني وبين نخيل الرّافدين قرابة وودّا وحنانا. أحبّ العراق وأنا تونس«.
في آخر تدوينة لها على حسابها فيسبوك أكدت البنية التونسية قائلة «نحن شعب لا يتعظ من ماضيه، ولا يحفظ دروس التاريخ وكأنّي بنا شعب قصير الذاكرة أو معدوم الذاكرة».
لم تحتفل بن مهني بالذكرى التاسعة للثورة التونسية يوم 14 يناير الماضي مؤكدة «لن نحتفل لأن الثورة مستمرة». اعترفت «حرية التعبير لدينا في خطر حقيقي. أخشى أننا نفقد ثمار الثورة: اختفاء الخوف وحرية التعبير عن آرائنا. يجب علينا أن نستمر في القتال لحماية هذا الحق والحفاظ عليه.
لينا بن مهني ما زالت هنا، وستكون حسبما يؤمن كثيرون، صورة الثورة التونسية، ولو دنسها المدنسون ولو قطف ثمارها الانتهازيون والسارقون والفاسدون.