السجن يا أنيسة داخل الإنسان،
أتمنى ألا أحمل سجني أينما ذهبت،
ان مجرد تصور هذا عذاب يدفع الإنسان إلى الانتحار.
(شرق المتوسط، عبد الرحمن منيف)
يتميز الدفتر السادس من دفاتر سلسلة دفاتر منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية[1]، والذي يحمل عنوان (أجساد راقصة، أحمد عبد الحليم)، باعتباره يمزج بين الشهادة الشخصية والرواية الأدبية. وهو يركز من حيث الموضوعة على حضور وتجليات الجسد في التجربة السجنية. إن مقارنة حضور الجسد في هذا النص الذي يقترح مؤلفه أن يُقدِّمه كرواية قصيرة، مع حضور الجسد في الإنتاج الروائي العربي المتعلق بالمسألة السجنية، يقدم لنا تنويعات على حضور الجسد في الأدب السجني. يُقارب هذا النص حضور الجسد في الدفتر السادس (أجساد راقصة) وحضور الجسد في رواية: (شرق المتوسط، عبد الرحمن منيف).
توضح مقدمة الدفتر السجني على مركزية موضوعة الجسد في النص الروائي: «تباضُع الأجساد هو عين النص، حقيقةً وافتراضًا، يشعر القارئ بأن عليه أن يتلمس جسده ليتأكد من أن جسده هو في مأمن مما يجري وأن الأمر لا يعنيه».
من المبتكر أن يلعب نص (أجساد راقصة) على استعارة الاعتقال باعتباره أداءً جسديًّا مسرحيًّا يؤديه السجين، فتفتتح الرواية بفصل (المسرح) حيث يقدم السجناء عرضاً مسرحياً يؤدون فيه أداءات الأجساد المتحررة: «وقفت الأجساد تتراقص على المسرح، آملة أن تنال رضى المتفرجين. خرج السجناء ليمثلوا مسرحية كوميدية للباشوات زائري السجن بقصد الاطمئنان على أجساد السجناء، وما إن اطمأنوا على أجسادهم، حتى جلسوا يضحكون عليها. والسجناء ظلوا يُمثلون أكثر من ربع ساعة أنهم ليسوا سجناء، هكذا كانت المسرحية». إن المفارقة في قدرة السجناء على أداء الحرية، تؤدي إلى اعتبار الاعتقال أيضًا كعرض أداء، وهو ما يظهر في مقطع نهائي من الرواية، حين يخرج السجين من الزنزانة، وينتهي أداؤه السجني: «أريد أن أطلَّ على العالم مرة أخرى، انتهى دوري في هذا العالم، هي مسرحية، صَفقوا لي وأخرجوني، انتهى دوري، ولكنها كانت بداية جديدة».
يُتابع نص (أجساد راقصة) رسم الاعتـقال باعتباره خسارة الإرادة على الجسد، والخضوع لممارسات النظام العقابي: «كنت أروض كرهًا، ولكن مع الوقت أصبح طوعًا، حركات بديهية أفعلها تنتمي إلى عالم حياة موجود، عالم العقاب، عالم يغير كل شيء عدا اللغة». وبالمقابل، فإن التمرد هو استعادة الإرادة على الجسد، فمقابل الجسد العقابي يحضر الجسد المتمرد: «قد ثار السجناء، امتنعوا، رفعوا رؤوسهم، تذكروا أن لهم أسماء، نسوا الأرقام. لن يتبرزوا أمامهم مرة أخرى، لن يرقصوا على المسرح، حافظوا على استباحة مؤخراتهم، أجساد ذويهم لن تستباح بعد الآن». يحضر أيضًا في رواية (شرق المتوسط) تجليات من الجسد العقابي: «إذا قالوا اخلع ملابسك، أخلعها. إذا قالوا انبطح على وجهك أفعل وكأني أقوم بواجب يومي. إذا قالوا اقعد مثل سعدان، كنت أجلس واضعًا يدي حول ركبتي». وتحضر في (أجساد راقصة) هرمية النظام العقابي من السلطة إلى الجلاد: «الضرب بالعصا من سجينٍ مثلي هي أخف من الضرب المبرح من السلطة، هي أخف، ولكن للحق، هي أكثر إهانة. فهي السلطة من حقها أن تضرب، وإن فكرت جيدًا فالشيطان[2] معين من السلطة، بل هي مَن أعطته العصا، إذا هو سلطة أصغر. مقياس إهانة الشيطان هي محيرة».
تتنوع أشكالُ انتـهاكات الجسد ووسائل التعذيب في الأدب السجني، تصف رواية (أجساد راقصة) أنواع الانتهاكات الجسدية التي يتعرض لها المعتقل منذ الدخول الأول والتفتيش، حيث التعري وتفتيش الأعضاء الجسدية: «وضعت وجهي على الحائظ مرة أخرى، خلعت ملابس نصف جسدي الأسفل، البنطال والشورت، وقرفصنا جميعًا بهذا الوضع». وفي فقرة أخرى الإشارة إلى خسارة المعتقل لجسده أثناء التفتيش: «انتهى التفتيش، بدأتُ في استرجاع إنسانيتي عندما أدخلت ساقي اليمنى في ساق البنطال اليمنى، أما كرامتي فقد كانت تائهة. يا للجمال، غطيت جسدي مرة أخرى». وكذلك تحضر انتهاكات الجسد في رواية (شرق المتوسط): «لما تعب من الشتائم أجلسنا على الأرض، وبدأ يخاطبنا بحذائه، وضع قدمه على رقبة إبراهيم من الخلف وداس بكلِّ ثـقله حتى وقف فوقه». وتحضر شتى وسائل التعذيب التي تتعرض لها الشخصية الرئيسية من الضرب، السجن الإنفرادي، التعليق في السقف، المياه الباردة أيام الشتاء، المنع من النوم: «انهالت عليَّ آلاف الضربات بالكرابيج والأحذية. ضربوني بأحذيتهم على وجهي المتدلي، قفز واحد منهم فوق كتفي، وكانت يداي مربوطتين وراء ظهري. شعرت أن عظامي تتمزق ورقبتي تسقط مثل خرقة».
تُركز رواية (أجساد راقصة) على صعوبات الجسد القيام بحاجاته البيولوجية والتي منها الطعام والتبول والتبرز والاستحمام: «أمامي نصف ساعة فقط، استلفتُ صابونةً حتى أستحم، آمل ألا ينسد شرجي هذه المرة، وأن تساعدني أمعائي في التخلص من الفضلات البائتة في جسدي منذ 4 أيام. لقد تعفَّن خليط من الخبز والفول والحلاوة والجبنة، أصبح برازاً شديد السواد. هذه آخر فرصة لي. لن أستطيع أن أنتظر يومًا آخر دون التبرز، وكلما مرة الوقت ألعنُ نفسي مرةً، وجسدي مرةً». تشتد المقاربة في الرواية بين شروط التبول والتغوط بين الحرية والاعتقال، حتى يصبح الإنسانية هي حق الاهتمام بالجسد وعنايته: «نعم أقول إنسانًا وسيد الإنسان، لقد نظفتُ نفسي وأخرجت برازي المعلق بيدي، وتحممت لمدة 10 دقائق كاملة، كل هذا يدل على إنسانيتي». وتبدو موضوعة حرية التبول والتغوط والتحكم في قضاء الجسد لحاجاته البيولوجية موضوعة حاضرة في رواية (عبد الرحمن منيف): «الإنسان في العالم الخارجي يستطيع أن يذهب إلى المرحاض متى يشاء، لا أحد يمنعه، لا أحد يدق عليه الباب ويطلب منه أن يخرج فورًا، لا أحد يجرؤ على حمل القذارة بصفيحة ترتج بين يديه وتتسرب إلى ثيابه ويديه».
تحتل موضوعة الشهوة، الاستمناء، الفانتاسمات الجنسية في الحياة السجنية مركزًا أساسيًّا في رواية (أجساد راقصة) حتى لتبدو كأنها موضوعة مميزة لهذا النص الأدبي، الحاجة الجنسية للتواصل مع جسد المرأة هاجس في شخصية الراوي: «يغرق عقلي في حب السجان، أو حب سجينة جميلة، جاءتني فكرة الحب عندما لمحت سجينات يتمشين من بعيد، أجسادهن داخل عباءات زرقاء مهرولة، للأسف ضعف نظري لم يتمكن من لمح تفاصيل أجسادهن جيدًا، ربما مع الأشهر القادمة تزداد سلطتي وأصل إلى مكان وجودهن بأيِّ حجةٍ وأدقق عيني فيهن وأحاول أن أبني علاقة مع جميلتهن، حتى وإن كانت أكبر مني، وإن كانت مجرمة، ما العيب؟ كلنا نتداول الخطأ في مراحل حيواتنا، ما المانع إن كانت سرقت أو زنت، كلها أفعال بين الخطأ والصواب حسب قيم الضمير». ويبدأ الراوي بتخيلاتٍ حول واقع الجنس والجسد في القسم المخصص للنساء من السجن: «ماذا تفعل النساء في العنبر المجاور لنا، هن شابات يحتجن لما نحتاجه نحن الرجال. المأساة بالكاد واحدة. هل يتحرشن ببعضهن، رأيت ذلك في جميع الأفلام السينمائية التي جَسدت سجون النساء. رأيتهن يلفِـظن الشباب بلا حرج، ويرقصن ويستعرضن أجسادهن».
تبتكر الشهوة المسجونة فانتاسمات جنسية تمارس فيها جنسانيتها عبر الخيال، فيبتكر الراوي فانتاسمًا على راقصة شرقية، يقاوم حضورها بدايةً في خياله الجنسي: «لم أودع راقصتي الفاتنة، هي صاحبة الفضل علي، كانت تأتيني دون تكلف. بدأت التخاريف تُشوش عقلي. الآن، يجب أن أدعو الله، وأقرأ ما يغفر لي عند اللقاء، هذا اعتقادي، أفضل لي من ثدي الفاتنة البارز»، لكنه سرعان ما يبني معها علاقة غياب وحضور، إغراء وجنس: «حاولت أن تهرب مني، وكأنها تغريني أكثر، كأي امرأة تحب أن يتشوق إليها حبيبها. خصوصًا إذا كانت امرأة فاتنة في وسطها الفني، وفي وسطها الجسدي. هي فنانة استعراضية، راقصة بالمعنى الشرقي». ويتطرق السجناء في حواراتهم في رواية (شرق المتوسط) إلى تلك العلاقة بين السجن والرغبة في التواصل مع المرأة: «السجن والمرأة لا يجتمعان، وبداية انهيار السجين أن يسيطر عليه شبح المرأة. كفوا عن هذا المرض أيها الثيران، اخصوا أنفسكم لينتـهي عذابكم».
في (أجساد راقصة) تتركز العديد من هواجس النص حول العالم الجنساني للسجناء، وتظهر موضوعة الاستمناء بفرادةٍ في الرواية من بين الإنتاج الأدبي العربي المتعلق بالمسألة السجنية:
«هنا الغفوة، قضيبي واقف، ولكنه ابتلَّ منِ استمنائه، لم أستطع التحرك. كنا صباحًا والجميع نِيام، ولا مجال حتى للتقلب يمينًا أو يسارًا».
«وقفتُ وخلعت ملابسي كلها، لم يكن أمامي أحد ينظرني وراء الباب، عندما رأيت رمز رجولتي ناهضًا، خيالي ذهب إلى الراقصة مرة أخرى، جسدي يحتاج إلى جسدها حتى يخرج ما بداخله. خلال دقيقتين كنت قد أفرغت بيميني مرة أخرى، تطايرت منوياتي على الحائط والأرض، لا يوجد جسد سوى جسدي، لا شهوة سوى شهوتي، بينما الراقصة في بيتها أو حتى في أحضان من اختاره القدر».
«ماذا لو دخل عليَّ أحد ورآني؟ ما هي عقوبة استمنائي؟ الجلد؟ ولكن لماذا يُعاقبونني أنا أضاجع الخيال، لا أضاجع شخصًا آخر».
«أعتـقد أن جميع الشبان هنا يَستمنون، أظن أن منوياتنا تخرج على الفنانة الواحدة في اليوم الواحد، يجب أن نصارح بعضنا البعض، أن نجول راقصاتنا حتى لا نضاجع امرأة واحدة جميعًا».
تقوم حكايةُ الشخصية الرئيسية، الأستاذ المريض المسجون على أساس العلاقة بين المعتقل والجسد، وينهار السجين تمامًا حين يعلم بخبر وفاة والدته، ويؤكد الراوي في أكثر من مقطع، وبشكلٍ محوري في بنية الرواية على تلك العلاقة بين موت الأم وانهيار جسد الابن في السجن:
«لو ظلت أمي، لظللت شابًّا وصامدًا، لو ظلت هدى لظللت أقوى وأشد. لكن جسدي هو الذي عذبني، لم يتركني أرتاح يومًا. حاربت جسدي فترة طويلة، جاملته، سألته أن يقف إلى جانبي، لكن شيئًا من الخارج ظل يغزوني دون رحمة».
«غدًا سأنام عند القبر، سأقول لها أن جسدي هو الذي خانني يا أمي، أنت التي بنيت هذا الجسد، وإذا انهار فلأنه ضعيف هكذا، وأنا لست مسؤولًا، لم يكن جسدي ضعيفًا بهذا المقدار عندما كنتِ حية. كانت تأتي لزيارتي كل أسبوع. بعد موتها فجأة تغير جسدي، أصبح هَـشًّا مستعدًّا لاستقبال الألم، أصبحت عِبئًا عليَّ، لا يتركني أنام، لا يتركني أتذوق الأكل».
وتجري حوارات طويلة في رواية (شرق المتوسط) عن تأثير الجسد على قرارات الإرادة والسلوك في ظل ممارسات التعذيب وشروط الاحتجاز: «الإنسان يقول إنه لن يقول شيئًا، أما إذا بدأوا يضربونه، إذا استعملوا أساليبهم، فإنه سيقرر في تلك اللحظات. وكيف يقرر؟ أن جسده هو الذي يقرر، الإرادة في تلك اللحظات تموت، تخبو، والجسد وحده هو الذي يفعل كل شيء». لتصل الرواية في نهايتها عن تلك السلطة التي يمتلكها الجسد على إرادة الإنسان: «عيب الإنسان في جسده، إذا ضعف الجسد، إذا تهاوى، سقطت روح الإنسان، تفتـتتْ إرادته. ولكن كيف يستطيع الجسد أن يسقط؟ كانت عيوني تثقب أجسامهم، تجعلها تتلوى من الحقد». وتتسع المسافة بين الذات والجسد في رواية (شرق المتوسط) إلى درجة عدم تعرف الذات لجسدها عبر انعكاس المرآة، بما للاعتقال من أثر على كليهما، الذات والجسد: «تقلبت، نظرت إلى الجدران، توقفتْ عيناي على صورة الشهادة، كانت في زاويتها اليسرى صورتي، نهضت على رؤوس أصابعي، صعدت فوق المقعد ونظرت طويلًا إلى الصورة، ليس بيننا أي شبه، ذهبت إلى المرآة وتطلعت إلى وجهي: لمن هذا الوجه، وعدت أتطلع إلى الصورة في زاوية الشهادة، قلت في نفسي: أن أحد هذين مات».
كما أن السجنَ والاعتقال يتشكل عبر النصين الروائيين باعتبارهما ذلك الصراع بين الإرادة والجسد، وذلك الخضوع لقواعد الجسد في ظل شروط الاحتجاز والنظام الرقابي، فإن الحرية أيضًا يتم تعريفها في علاقتها مع الجسد. في رواية (أجساد راقصة) تكون الحرية هي قدرة الجسد على أداء حاجياته دون قواعد: «باب الحمام سيكون مكتملًا، لن يُعرى أسفل أو أعلى جسدي للمنتظرين. بإمكاني إخراج فضلاتي وقتما أريد». وتظهر الحرية أيضًا باعتبارهما الارتباط بالمرأة والزواج، وممارسة الجنس والقذف المنوي في ظل من القرار الفردي الحر: «سأبحث عن امرأة أتزوجها، مشتاق أنا لرؤية النساء، أخرجت منوياتي كثيرًا خلال السنوات الماضية في أقمشة الملابس، وعلى حوائط أرضية الحمام. خارج السجن لن أشعر بالضيق من جسدي وحاجاته».
يربط الراوي في (شرق المتوسط) بين الحرية والغناء، فبينما تُـهاجر الشخصية الرئيسية من شرق المتوسط إلى مرسيليا، يبدأ على سطح الباخرة باستعادة الشعور بتملك الجسد، فالحرية تظهر باعتباره استعادة الإرادة الفردية سلطتها على الجسد: «أنا الآن أملك جسدي، أستطيع أن ألقيه في البحر، لا أحد له سلطان عليَّ مثله. توفر لي جوًّا من الحرية، لكنها حرية لا تصل حدود أن أُغني. تمنيتُ أمس أن أغنِّي بأعلى صوتي. كنت أقف وراء السارية، ورغبة الغناء في حلقي مثل دمل أريده أن ينفـقِـئ».
[1] - وهي سلسلة كتب وكتيبات، لا دورية منتـظمة لها، مدارها على المسألة السجنية في أبعادها الشخصية والعامة. يصدرها منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية ومؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث، صدر منها ستة دفاتر بين عامي 2019-2020.
[2] - في النص، الشيطان هو لقبٌ متعلق بالسَّـجان القائم على الضرب والتعذيب، أي الجلاد.