يتميز الدفتر الثالث من دفاتر منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية[1]، والذي يحمل عنوان (العود إلى بني أمي، عن سجن زحلة وسجون أخرى) بعنصرين اثنين: العنصر الأول يتعلق بالأسلوب، كونه نتاج تعاونٍ بين الشاهد/ صاحب التجربة السجنية/ الراوي لها، والذي يبقى اسمه مجهولًا للقارئ، وبين الكاتب أو المدون أو صاحب التجربة الكتابية في التعبير عن هذه التجربة السجنية المروية أمامه، وهو الكاتب والصحفي (حسن الساحلي). والعنصر الثاني يتعلق بالموضوعة، فهي شهادة سِجنية لشابٍّ ينحدر من بيئة عائلية، اجتماعية، وثقافية تعتبر تجارة الحشيش جزءًا من إرثها العشائري في منطقة بعلبك هرمل اللبنانية.
إن كلا من العنصرين الأسلوبي والموضوعاتي يتماثلان بين (العود إلى بني أمي) وبين واحد من أشهر نصوص الشهادات السجنية، والذي يحمل عنوان (السجينة، دار الجديد، 2002). فعلى مستوى الأسلوب، كتاب (السجينة) هو أيضًا نتاج تعاونٍ بين صاحبة التجربة/ السجينة (مليكة أوفقير) وبين الكاتب أو المدون (ميشيل فيتوسي). وكذلك في (السجينة) فإن مليكة أوفقير ابنة الجنرال (أوفقير) المقرب من القصر الملكي المغربي، والتي يتبناها القصر الملكي في عهد (محمد الخامس) ويسجنها في القصر الملكي بعيدًا عن عائلتها، ومن ثم تُسجن هي وعائلتها على إثر الانقلاب الذي قاده والدها الجنرال في العام 1972 محاولًا قتل الملك، مما جعلها سجينةً لمدة عشرين عامًا مع عائلتها. في كلٍّ من الدفتر السجني (العود إلى بني أمي) وفي كتاب (السجينة) تَكون الذات المسجونة هي ضحية الانتماء العائلي، الطبقي، الديني، والاجتماعي.
يُصنف أصحاب الدفتر السجني (العود إلى بني أمي) أنه في إطار العمل الروائي المصنف داخل نوع الأدب السجني: «بالطبع لهذه الشهادة أن تُطالَع أيضًا بوصفها، في مواضع منها، ألبوم صور برسم التصفح عن سجن زحلة ونزلائه، وما بين السجن وجواره، وتفاصيل أخرى. وهي، بهذا المعنى، مساهمة في الأدب السجنى اللبناني بالمعنى الواسع للكلمة. وإذ هي كذلك، فهذه الشهادة، أيضًا وأيضًا، نص حقه أن يُقرأ تحت هذا العنوان. فشكرًا لمَن كتب، وشكرًا لمَن حرَّر، حتى باتت هذه الرواية مشاعًا يأتيه القارئ والقارئة من حيث يشاؤون». أما عن الأسلوب المتبع في تحقيق كتاب (السجينة) فهو الروي والتدوين بين صاحب التجربة والكاتب المختص: «لماذا هذا الكتاب؟ لأنه كان لابد له أن يكون. ولو أن طريقي وطريق مليكة أوفقير لم تتقاطعا، فلقد كانت مليكة ستجد حتمًا السبيل إلى تسجيل هذه الشهادة، لا سيما أنها منذ خروجها من السجن تتحرق لسرد قصتها طردًا لشياطين هذا الماضي المؤلم الساكن في طيات كيانها. ببطء كان مشروع سرد سيرتها يتبلور في نفسها». وفي مقطعٍ آخر من مقدمة الكتاب نستطلع التقنيات المتبعة في تحقيق نصه: «أخذت أكتب، وشرعتْ هي تقرأ وتعلق. هذه المرحلة لم تكن الأسهل. لم يكن سرد اللحظات المأساوية سهلًا، فكيف إن وصل الأمر إلى تدوينها. مرارًا كانت قراءتها لكابوسها، مُدونًا، فوق طاقتها». وكما في الدفتر السجني، فكذلك في كتاب (السجينة) يقدم أصحاب النص على اعتباره متضمنًا عناصرَ روائية: «كانت رواية مليكة مؤلمة ومخيفة وفضائحية، بل ومثيرة. كنت أرتجف، أجوع، أبرد، أخاف. وبالنسبة لي كان أفراد عائلة مليكة مجرد شخصيات روائية، إلى أنِ التقيت بهم الواحد بعد الآخر».
إن السجين في (العود إلى بني أمي) هو شابٌّ ولد وتربى في محيطٍ عائلي يعتبر زراعة الحشيش وبيعه بمثابة العمل التقليدي الذي تتوارثه الأجيال: «بالنسبة لهذه العائلة، يعتبر السجن جزءًا طبيعيًّا من دورة حياة أيِّ شخصٍ فيها، فتجارة المخدرات وزراعتها عمل مُتوارث وتقليد لا يَشوبه تردد. لذلك لا يتعرض السجين بعد خروجه إلى معرة أو نبذ من محيطه الاجتماعي. كما يحصل مع أبناء العائلات الأخرى، والتي ينتمي أبي إلى إحداها». لذلك، فإننا أمام مجرم هو ضحية للتربية العائلية والاجتماعية والعشائرية في المنطقة التي ولد فيها. تروي سيرته الذاتية في الطفولة بعنوان (براءة في الوحل) بإصابته بمرض منذ طفولته جعله أسيرًا للتواصل مع المحيط العائلي المغلق دون خيارات أو نماذج اجتماعية أخرى يتعرف عليها: «خلال طفولتي أصبت بالربو، لذا لم أعتد على الخروج كثيرًا من بيتنا الواقع في إحدى بلدات منطقة بعلبك الهرمل، لم يعوضني أخواتي الفتيات الثلاث عن وحدتي تلك. كان عالمي محصورًا في بيتنا وبيوت أقاربنا التي تثق أمي بنظافتها وحسب». ونجد مفاهيم العائلة التربوية في موضع آخر من سيرة الطفولة، وذلك حين يلجأ الأب إلى الصيد كطريقة لإخراج الطفل من عزلته، حيث يتعلم الطفل التعبير بالسلاح: «لما كبرت قليلًا لم يجد أبي بُـدًّا من التدخل. فصار يأخذني معه إلى الصيد. حين أستعيد ذكريات تلك الرحلات، يغزوني نفس شعور الخوف الذي كان ينتابني وأنا تائه في الأحراش أحاول إيجاده. كان هلعي يتنامى كلما مر الوقت أكثر نارية من بندقيتي الصغيرة». وكانت مدرسة الطفل بعيدة عن بلدته مما قطع الطريق أمام تكوين أي صداقات مع أبناء البلدة أو اندماجه مع واقعها. لم يكن له أصدقاء إلا من عشيرته، التي يصف تغير علاقته بها عبر المراحل العمرية: «أصدقاء الطفولة أمس هم ذاتهم تجار الحشيش اليوم. لكني لم أفقد الغربة بينهم، لكن لم أكن أخاف منهم كغيرهم، فهم في النهاية عشيرتي».
كذلك الأمر مع السجينة مليكة أوفقير، فهي ضحية الانتماء العائلي. لقد كانت مقربة في طفولتها من العائلة الملكية مما أخضَعها لنظام التبني لتعيش في القصر الملكي بعيدًا عن عائلتها: «عادة التبني كانت سائدة في القصر، كانت تسري على الأطفال الفقراء والأيتام. حتى إن معظم وَصيفات القصر تم تبنيهن عندما كن صغيرات»، وهكذا سجنت وهي صغيرة بعيدًا عن منزلها لتعيش سجينة القصر الملكي: «كنت أشعر بالقمع والاضطهاد. كلما تقدمت في السن كانت الحقيقة تصبح أكثر وضوحًا وبشاعة. لقد أدركتُ مع الوقت أنني كنت طوال تلك السنوات والأيام سجينة بين جدران القصر، وأنني كنت أذبل وأختنق تدريجيًّا».
ثم سجنت (مليكة أوفقير) على إثر الانقلاب العسكري في 16 آب 1972 الذي حاول فيه والدها الجنرال (محمد أوفقير)، الرجل الثاني في النظام المغربي حينها، اغتيال الملك (الحسن الثاني)، وبعد أن أعدم الجنرال (أوفقير) بخمس رصاصات، يومها قرر الملك إنزال أبشع العقوبات بعائلة الجنرال المتمرد، فذاقت العائلة أقسى ألوان العذاب في معسكرات الاحتجاز والسجون والمطامير. يكتب (ميشال فيتوسي) في مقدمة الكتاب: «حين وقع الانقلاب تيتمت مليكة مرتين، إذ فقدت والدها الفعلي وعطف الملك، والده بالتبني. وهنا مأساة ملكية أوفقير وحدادها المزدوج، وسؤالها الكبير عن الحب والبغض، فهل للحياة معنى حين يحاول أعز الناس عندها والدها الحقيقي قتل والدها بالتبني الملك؟ وكيف يتحول والد بالتبني إلى جلاد بلا رحمة؟ عظيمة كانت محنة مليكة، هذه المأساة هي جوهر الرواية».
يدرس السجين المجهول الاسم الهندسةَ المعمارية، تأثر بمسرحيات وكتابات (زياد الرحباني)، محاولًا الخروج من البيئة المغلقة المفروضة عليه، إلا أن أبناء العائلة غالبًا ما يلتقون حول مائدةٍ صغيرة ليلفوا سجائرهم ويخصبوها بالحشيش. لكن لاحقه الانتماء الطائفي كمصير حتمي يشكل هويته ويرسم ملامح مستقبله: «طالما ركنت إلى راحة الإلحاد طول حياتي، ولم يكن لي ارتباط بأية شعائر تخص دينًا أو مذهبًا ما، لكن يبدو أني مقيد في السجلات الحكومية بعكس ذلك، فقد اكتشفت في مدرستي الجديدة بأنني شيعي، وفي بلدي يُحشر المرء في خانة ديانته ومذهبه حشرًا لا يستطيع التملص منه». أما في حكاية (مليكة أوفقير) فإن العلاقات العائلية السياسية هي التي تلعب دورًا أساسيًّا في مصير السجن الذي ستعيشه: «ينحدر محمد أوفقير من بربر أعالي الأطلس المغربي. وكلمة أوفقير تعني الفقير، واشتهرت عائلته بذلك لأنها كانت تعطف على الفقراء والمحتاجين. كم كان رهيبًا ومُوجعًا أن يكون مَن رباني هو جلادي. وأن تعصف بي بلا رحمة أو هوادة مشاعر متضاربة من الحب والكراهية نحوه. لقد حاول أبي أن يقتل أبي بالتبني مما أدى إلى قتله. كانت كارثة وقعت على رأسي أنا».
في كلا الكتابين يتشارك الشاب اللبناني والأميرة المغربية التجربة السجنية مع أقرباء أو قريبات من العائلة والعشيرة، يقدم لنا الشاب اللبناني نماذج من الشخصيات العائلية المحيطة به: «ترك علاء المدرسة ليعمل في زراعة الحشيش، حيث بدأ يبيعه في المنطقة والجوار مع أولاد عمه. كان هذا قبل أن يفتح له مجال أرحب بين طلاب جامعة سيدة اللوزية الأغنياء، حيث ضاعفوا له الأموال التي كان يجنيها من البقاع». ويتركز نص الدفتر السجني على تجربة مشاركة الزنزانة مع العشيرة ومع أعدائها في الآن عينه: «الغرفة مستطيلة الشكل، بحوالي 25 شخصًا، ثمانية فقط ينامون على الأسِرة، والباقي يفترشون الأرض. معظم السجناء من بلدتي ما عدا خمسة من مناطق مختلفة، وليس بمستغرب طبعًا أن يكون نصفُ العدد من عشيرة أمي. بينما هم في عداد المُهمشين جراء مخالفـتهم للقانون وأعمالهم في الممنوعات. تنعم عائلة أبي بالشرعية التي يأمنها الغطاء السياسي مع وظائفهم في الدولة». وكذلك أبعد من الرابطة العائلية، تتشكل في نص الكاتب اللبناني بوضوح اعتبار العالم السجني كمرآة للهرمية والطبقية الموجودة في الواقع الاجتماعي: «كان لجغرافية الزنزانة بُعد اجتماعي، أو بالأحرى طبقي، عزز الكراهية أكثر، فلسان حالهم أنهم استراحوا من العائلات صاحبة النفوذ في الخارج، فلم يبقَ إلا مشاركتهم لنا في الزنزانة». وكذلك الأمر مع (مليكة أوفقير) تسجن خلال عشرين عامًا مع أفراد عائلتها: «كان علينا أن نتعلم كيف نعيش جميعًا مع بعضنا، في حالة من التشويش والاختلاط والإرهاق والظلمة والقذارة، والعزلة، والتقوقع، والسجن. وكان الصغار يكبرون يومًا بعد يوم. بالرغم من كل الطاقة التي كنت أبذلها، كان ما زال لديهم قناعة ثابتة بأن وجودهم مُهدَّد».
تركز الشهادتان على الجانب الجنساني في التجربة السجنية، يهجس السجين اللبناني بحماية هويته الجندرية الذكورية والجنسانية، يكتب عن الموضوعة تحت عنوان (هُرمون): «ألصقني الشرطي بالحائط، لم أكن أعبأ حين طـلب مني خلع ثيابي سوى بالحلة التي سيظهر عليها عضوي، ليس بإرادتي أن ينصبَّ تركيزي في هذا الموقف على هذا الجزء من جسدي خصوصًا. تملكني الخوف من شيء آخر أيضًا، هو احتمال ملاحظتهم قلة شعر صدري وظهري، وحيث أن كثرة الشعر في جسم الرجل أمارة على فاعلية هرمون الذكورة لديه، لابد أنهم سيطرحون تساؤلات حول هويتي الجنسية ومدى رجولتي. وودت أن أبدو أكثر صلابة مما ظهرت عليه في لحظاتي الأولى في السجن، لكن وقوفي عاريًا أمامهم وما تلاه، أخار من عزمي، لأواجه هشاشتي وضعفي». كذلك (مليكة أوفقير) تعيش في التجربة السجنية اعتداءً وانتهاكات يتعرض لها الجسد النسائي هذه المرة: «عشت حالة من الرعب اليومي، كنت أموت خوفًا من أن يقتلوني أو يعذبوني جسديًّا، أو يغتصبوني، أو أن يُضاعفوا من إذلالهم وتعنتهم. كم كنت أشعر بالخزي والعار، لأني تركت الخوف يتسلل إلى قلبي ويقهرني. كانت حرمتنا منتهكة، وخصوصيتنا مغتصبة، كانوا يحصون علينا أنفسنا، نعيش تحت رحمة أنظارهم. بعد ظهر أحد الأيام، فتح الباب في ساعة غير معتادة، دخل كاباسيكو، دفعني إلى الحائط، ألصق جسده بي، أخذ يمسح بيديه فوق جسدي، حاول أن يقبلني، وينزع عني قميصي». وفي العلاقة مع الجسد المسجون على مدى عشرين عامًا تتشكل أسئلة الجنسانية كهاجسٍ بالنسبة للمرأة السجنية: «غالبًا ما كنا نتحدث فيما بيننا عن موضوع الجنس، كنا بحاجة ماسة إلى تعويض هذا النقص، والتنفيس بأي طريقة. شعرتُ باليأس والاستسلام لأنني لن أعيش أبدًا أي قصة حبٍّ كبير، لن أبني عائلة، ـ ولن يحتضنني أي رجل بين ذراعيه. لماذا أعذب نفسي بمثل هذه الأوهام المستحيلة؟ قررت أن أضع حدًّا لها، تعلمت كيف أسيطر على نفسي، وأخنق هذه الأفكار في مهدها، لأنها كانت تضاعف ألمي، وتدمرني».
يشرع النصان إلى سرد التفاصيل الذهنية والنفسية الذاتية للحياة السجنية، نقرأ في (العود إلى بني أمي) عن استسلام الذات المسجونة لمنطق الزنزانة: «استطاع منطق الزنزانة أن يبتلعني، ويقنعني أن التهمة التي دخلت بها ستبقيني سنوات في السجن كما حصل مع مساجين آخرين قبلي»، وعن خسارة القيم الذاتية: «مع أني كنت واعيًا لوجودي في سجن زحلة، وتحديدًا في الطابق الثاني منه، إلا أن شعورًا لم يُفارقني طوال فترة سجني، بأني في قبوٍ عميق تحت الأرض. حفَّـز هذا الشعور بالضيق تدهور نظرتي لنفسي، وظَني أن مكانتي التي حاولتُ منذ صغري إثباتها للعالم قد تراجعت لنقطة الصفر، انصهرت وسط أصحاب الجنايات والقتلة. كل ما كنت قادرًا على القيام به في السجن هو استعادة أحداث الماضي، والتكهن بكل ما يحتمل أن يقع في مستقبل قريب». وفي كتاب (السجينة) تصف السجينةُ الحالةَ الذهنية التي تعيشها في واقع الاعتقال: «لم يعد هنالك من شيء نفعله إلا التفكير، والتأمل، والتساؤل طوال النهار. كان رأسنا لا يكف ثانية واحدة عن العمل. أما في الليل فحَـدِّث ولا حرج، كان الماضي ينهال عليَّ كالسيل الجارف. يقلب مواجعي ويؤلمني. أهرب إلى الواقع الحاضر، أجده هالكًا مُدلهمًّا، أفر إلى المستقبل. إنه سراب لا حقيقة». وهي بدورها أيضًا تتطرق إلى خسارة القيم الذاتية: «أصبحنا في سنوات الأسر الأخيرة مثل حيواناتٍ هائجة في أقفاصها. تفلتنا من عِقالنا، وأدرنا ظهرنا لصوت المنطق، كان الغضب المتأجج في نفوسنا يحرك خطواتنا إلى مزيد من العنف والعدائية والقسوة، لقد خسرنا أنفسنا، فماذا يهمنا بعد؟».
وتستمر عند السجين الشاب اللبناني مجهول الهوية مشاعر القلق وهواجس العودة إلى السجن حتى بعد عامٍ من نيله الحرية، فيصف ذلك: «بعد مرور عام من خروجي، لازمني شعور بأني لا زِلت بينهم، ولا يزالون يتهامسون عني ويحيكون المؤامرات لإيذائي. لم تتوقف نوبات الهلع، ولا تزال تزورني من وقتٍ لآخر. أنـتظر في كل لحظة أمرًا سيئًا على وشك الحدوث. أُخمِّن أن يَشي بي أحدهم مرة أخرى وأعود للسجن. وأرى رجوعي بين رفاق الغرفة مرة أخرى، يلوح لي ضيقهم ونبذهم، وذلك اليأس القابع في الأرجاء. فاتني أنهم لم يعودوا مكانهم إلا في خيالي. أصبحوا في الخارج الطليق الآن، بينما لا زلت أحبس نفسي بينهم هناك».
وتصف السجينة (مليكة أوفقير) تجربتها السجنية بفقرة أساسية ونهائية في الكتاب: «كل يوم بسلام كان بمثابة معجزةٍ تُدخل إلى قلبي النشوة. فأتطلع بلهفةٍ إلى اليوم الآخر الذي سيَليه. أغرف من بهجات الحياة، ألبس، وأتزين، أضحك وأمرح، ألم أكن بهذا الدور أكذب على نفسي؟ هل كنت أهرب من الواقع الأليم؟ كنت أريد أن أقنع نفسي بأنني تجاوزت عقدة الماضي، وبأن تلك السنوات العشرين لم تعد تثقل كاهلي، وبأنني لست أبالي إذا كنت مُحملة بعُمرٍ لم أعشه وذهب هباءً منثورًا. أحيانًا أُشبِّه نفسي بطفلٍ ظلَّ طوال حياته يشاهد مدينة الملاهي والألعاب دون أن يتمكن من الانضمام إلى جمهرة الأطفال المحتفلين. ولكن هل يعني هذا أن حياة الأسر والاعتقال كانت خالية وخاوية؟ لا، بالطبع لا، إن التجربة التي خضتها داخل السجن كانت أغنى ألف مرة من تجارب الآخرين خارجه، لقد اختبرت الوجه الآخر للحياة من ألمٍ وخوف ورعب، ومعاناة، وجوع وبرد. تعلمت ماذا تعني الحياة وماذا يعني الموت. وتأملت ملـيًّا في الخلق، والكون، واكتشفت نفسي مَن أكون وما أكون أيضًا».
[1] - وهي سلسلة كتب وكتيبات، لا دورية منتظمة لها، مدارها على المسألة السجنية في أبعادها الشخصية والعامة، يصدرها منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية ومؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث، صدر منها ستة دفاتر بين عامي 2019-2020.