«البلادةُ والموت الانفعالي هما الطور الثاني لردود الأفعال العقلية. بجانب هذه الاستجابات يعيش السجين الوافد حديثًا ألوانًا من الانفعالات المؤلمة التي يُحاول أن يميتها، وفي مقدمتها شوقه العارم لبيته ولأسرته». هذه أحد الميكانيـزمات الدفاعية عن الذات البشرية بحسب تحليلات «فيكتور فرانكل» في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى».
البلادة هي نتيجةٌ لحشر الإنسان «في لحظات المِحَنِ تحت وطأة المهام الأصلية، كالحفاظ على حياته وصحته وتلبية غرائزه الأولى كالطعام والشراب فقط. أصبح الواقع مُظـلمًا، وغدت الجهود وكل الانفعالات متمركزة حول مهمةٍ واحدة: المحافظة على الحياة ـ حياة الفرد ذاتها وحياة زميله ـ السجناء مع نهاية كل يوم يُردِّدون: لقد انقضى يوم آخر»، والكلام لـ فرانكل.
السجين، ورغم كل شيء، يمتلك أكثر الأشياء قيمةً في الحياة، الزمن، الذي يفتح له باب التعامل مع المحيط. يصرف المعتقل سحاب أيامه الأولى، على أقل تقدير، في مراقبة ما يجري من حوله بصمت. كيف يتصرف زملاؤه في أوقات التحقيق؟ كيف يتعرفون على السجانة؟ كيف باتوا يدركون، من محبسهم، تحرك الأوراق في الفرع الأمني؟ متى ينطلق البريدُ وكم من الوقت يحتاج ليعود؟ يُحلِّلون كلمات المحققين وإشاراتهم ومنها يدركون المراحل القادمة؟ إذا ما طُلبت لتحقيق في الليل فهذا مؤشر سيء، لأن الطلب الليلي يعني التعذيب المرّ حتى الصباح. يُحللون كل شيء بداية من تلك الأمور العظيمة، بالنسبة للسجين ومصيره، وصولًا إلى يومياتهم الاعتيادية من تناول الطعام إلى شرب الماء وحفظه، التعامل مع الفضلات والتخلص منها، الاستحمام، التدخين، الكلام، الصمت، الصلاة، البكاء والفرح. كل شيء في السجن يحتاج إلى دليل للتعامل معه، دليل غير مكتوب، تراه وتشعر به وتدركه وتتعلمه عبر التقليد والاعتياد.
كرم المشاركة المَعرفية لما سبق بين السجناء لا تراها في الحياة الاعتيادية. يندفع المعتقلون لمشاركة أدقِّ تفاصيل التعليمات للأمور اليومية مع بعضهم البعض، لا لمجرد المحبة أو الظرف الخاص الذي يَعبرونه سويًّا، ولكنها أيضًا نتيجة الاندماج في جسدٍ واحد. يستحيل أبناء المهجع الواحد، على أقل تقدير، جسدًا واحدًا يحاول أعضاؤه حماية أنفسهم، بالالتـزام بكل التعليمات. المخالفة الفردية في السجن السوري تنعكس على الجماعة، فالعقوبة جماعية والمكافئة، إن وجدت، فهي فردية. إذا خالف أيٌّ من المعتقلين تعليمات الصمت والنوم بعد الساعة العاشرة يعاقب كل زملائه معه، وخاصة إذا ما رفضوا الإفصاح عن اسم المخالف. تَعاقب الأيام في السجن يعني تجذيرًا للعلاقة بين السجناء، لاشتراكهم بمهام الحماية الجماعية. تَعاقب الأيام يعني تجذيرًا للكفاح المشترك لأجل النجاة. تلك العلاقة التي تولد في ماء المُعاناة، تحطم الفوارق بين المعتقلين، تصنع منهم أخوة ولدوا في تلك اللحظة من أب جديد هو: السجن، الرحم الذكوري الوحيد على سطح البسيطة. رحم ينجب أخوة من نوع خاص، لا يمكنهم نسيان تجربتهم المشتركة مهما طالت بهم الأيام. فالمعاناة تحفر أثرها عميقًا، لذلك يأتي معناها أكثر وضوحًا إذا ما وجد الفرصة للخروج إلى النور.
إذًا، هو عالم السجن الذي كان يومها يفوق قدرتي على الفهم، بِتُّ أدرك إشارته وتفاصيله، بفضل تلك الحياة الأخوية التي صرتُ مع الوقت جزءًا منها. هكذا ولدت المواقف والاهتمامات مع العائلة الجديدة، وانطلقت حياة موازية لتلك التي في الخارج، التي تبدأ بالابتعاد رويدًا رويدًا حتى تبقى حبيسة الحلم، والحلم فقط. حياة السجن تكبر وتنمو في تفاصيلها لتصير هي البديل والمركز، بديل للحياة الاعتيادية ومركز العناية والعمل عليها لتكون أقل سوءًا قدر المستطاع. الاشتراك بالتحدي للواقع الكارثي يخلق التحالفات المتينة أو الحروب الشرسة بين أبناء العائلة السجنية. يوم عدتُّ من جلسة التعذيب، التي ذكرتُـها لكم، كنت غير قادرٍ على تحريك يدي نتيجة الشبح والضغط الكبير على أعصاب الكتفين. لم أكن قادرًا على مسك الملعقة أو رغيف الخبز أو قطعة الصابون بيديَّ لأيام، فكان هناك مَن يُساعدني في كل شيء. كان شابًّا متدينًا من مدينة حلب، اعتُقل كحالتي بتقريرٍ كيدي كُتب ضده من قِبل أحد زملائه. المفارقة أننا ورغم أذيتنا من زملاء أو أصدقاء خارج السجن، إلا أننا نخلق علاقات متينة نثق فيها، وكأنما السجن يَجُبُّ ما قبله. السجن بوابةٌ تنقلكَ إلى عالمٍ جديد من القِيم والسلوكيات لا يشبه العالم خارجه ولا يتقاطع معه.
بِتُّ أكتشف محيطي في المهجع الثاني في فرع فلسطين، المقر القديم، الذي كان يستقر بين كفرسوسة والمزة، في قلب القسم الجديد من العاصمة السورية دمشق. يُحيط بذلك البناء عشرات الأبنية الأمنية لفروع مخابرات أو مقار للجيش وإداراته، مثل الإدارة الإنتاجية وإدارة التوجيه السياسي وغيرها من الأبنية. كل هذه الكتل المخابراتية العسكرية تستقر قرب كليات تَـتبع جامعة دمشق، وعلى التوازي مع بناء وزارة التعليم العالي. كانت هذه الكتلة الأمنية يومًا ما على أطراف المدينة قبل نموها، وكأنها سور يحميها أو يحبسها! سجن فرع فلسطين كان يضم عشرة مهاجع، يتسع كل منها لأكثر من أربعين معتقلًا في الحالة الاعتيادية، والمهجع العاشر من بينها، الوحيد فوق الأرض، يقع في الساحة الخارجية للسجن وغرف التحقيق. يتسع العاشر لأكثر من مئة معتقل إذا ما أرادوا حشرهم فيه. هناك أيضًا منفردات تقع مع المهاجع التِّسع المتبقية في قبو البناء، لحسن حظي لم أعرف تلك المنفردات.
في المهجع الثاني الذي تدخله عبر بوابةٍ معدنية سوداء تُفتح إلى الداخل، لتجد غرفة صغيرة ثلاثة أمتار ونصف تقريبًا بمثلها، طولًا وعرضًا. يقع الباب في الزاوية اليمنى السلفية لمربع هذه الغرفة وفي الزاوية اليسرى العليا يحتل التواليت ومغسلة صغيرة مساحة معتبرة من المربع، أحال السجناء سقف التواليت والمغسلة إلى مساحة نوم. نمت لأكثر من أسبوعٍ فوق ذلك السقف حيث تعبر تحت جسدك تلك الأنابيب التي تُدخل الماء إلى الغرفة، لا يعزلك عنها أي شيء عدا بطانية مهترئة. كنا نحشر ثلاثة معتقلين فوق تلك المساحة التي لا تزيد عن مترين طولًا بمتر عرضًا، جميعنا على سيوفنا مستقرين في محاولةٍ لمنع حركتنا كي لا نسقط فوق أجساد معتقلين آخرين. الآخرون هنا يزيد عددهم عن خمسةٍ وثلاثين في الحالة الاعتيادية، عدا عن الشاب الحلبي المتدين ورئيس المهجع المُسِن، تعرفتُ إلى عائلة تركية، رجل تجاوز الستين من عمره وابنه الذي بالكاد عرف العشرين. اعتُـقلا على الحدود السورية التركية بتهمة التهريب، وهذا أمر اعتيادي في تلك الفترة والمنطقة، إلا أن قضيتهم تطورت لتدخل عالم التجسس. كلاهما لا يعرفان من العربية إلا ما نقلته التركية كلغةٍ إليها، وكلما سألهم أي مستجدٍّ عن سبب اعتقالهما، يُجيبان بكلمة يتيمة: «أجق... أجق» أي تهريب.
بعد وصولي فرع فلسطين بأيام قليلة جاؤوا بسائق سيارة أجرة، لبناني الجنسية، صرنا أصدقاء مع الوقت، مع أنه كان بعمر والدي ويُشبهه بطريقة خرافية. يوم أدخلوه إلى المهجع، للحظة، ظننته أبي وكاد قلبي يتوقف من الخوف. كان يحب «الليمون» أي البرتقال، فهو كغالبية اللبنانيين يطلق على البرتقال اسم الليمون. أعطيه حصتي من الليمون، على حقارتها، ويعطيني حصته من الخبز، الذي لا قدرة له على أكله، فلا أسنان ولا أضراس في فمه عدا النابين والطاحونتين في كل فك. أذكر جيدًا يوم عذبوه بشراسةٍ لحدِّ أننا صرنا ننقله إلى التواليت لقضاء حاجته، نتيجة عجزه عن الوقوف على قدميه. شبحوه لوقت طويل، أدخلوه في الدولاب، جلدوه على ظهره وكل نقاط جسده، لكموه وصفعوه ورفسوه، أرادوا له الاعتراف بقتله لجندي سوري في لبنان، ولكنه لم يقرّ بشيء أقسم أنه لم يفعله، فوضعوه على الكرسي الألماني، حتى كاد يُشل!
يتــبع...