يرى عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي في كـتابه «التخـلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، أن الإنسان المقهور «يعيش في عالم من العنف المفروض. عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها التي لا يستطيع لها ردعًا، والتي تشكل تهديدًا فِعليًّا لقوته وأمنه وصحته (الجفاف، الفيضانات، الحريق، الأمراض والأوبئة، الحروب، الآفات الزراعية... إلخ). هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة، وفي حالة فقدان متفاوت في قدرته للسيطرة على مصيره».
أدركتُ مع أيامي الأولى في فرع فلسطين، بأن الخوف الذي عرفـتُه في حياتي السابقة ليس إلا درجة تَـتلوها درجات. بِتُّ في عالمٍ تحكمه الضرورة، عالم جديد كلـيًّا وعليَّ التعامل معه. بعد يومين على وصولي إلى فرع فلسطين، طُلبت مساء يوم السبت لأول جلسة تحقيق، التـزمتُ بتعليمات الخروج من المهجع. عند نهاية الدرج وجهني السجان إلى اليسار، وقفت ووجهي إلى الجدار، وانتظرت قرابة النصف ساعة. طلبني بعدها محقق شاب، لم يُعطنِ «طماشة»، إنما قادني إلى الغرفة الأولى في الممر الذي يضم حوالي ثمانِي غُرف. كانت جلسة «النشرة المدنية»، يتوجب عليك التعريف بأسماء أقاربك جميعًا مع تواريخ ميلادهم وأسماء زوجاتهم أو أزواجهم وأولادهم وكل منهم وعمله ومكان إقامته. أخذ يسألني ورأسي يفكر بجوابٍ لسؤال واحد فقط: أين أجد إجابات لأسئلته؟
أؤخبركم سِـرًّا؟
أنا لا أعرف إلى اليوم تاريخ ميلاد والدي، وكذلك والدتي، بفارق أنني أعرف عام ميلادها فقط. يوم اعترفتُ للمحقق المتدرب بهذه المعلومات نظر في عيوني باحتقار، كأنني ارتكبت معصية تستحق حرقي بنيران الجحيم. ماذا لو اكتشف بأنني لم أعرف اسم والدي إلا في أول أيام مدرستي الابتدائية، وعرفته بلسان معلم الصف الذي كان صديقًا لأحد أعمامي. أهلي جميعًا كانوا ينادون والدي «أبو جابر»، ولم أعرف اسمه المسجل في الهوية إلا يوم صرت في السادسة من عمري، في أول أيام المدرسة. طلب المعلم مني التعريف بوالدي واسمه وعمله، فأجبت بكل غباء طفولي: «اسم والدي أبو جابر، ويعمل موظفًا حكوميًّا». ذُهل يومها المدرس كما ذهل المحقق من غبائي وجهلي. إن كانت هذه حال معلوماتي عن أبي وأمي فلكم أن تتخيلوا معلوماتي عن باقي أفراد العائلة، وهم كثر.
أُحبِط المحققُ الشاب من شدة جهلي، فأعادني إلى المهجع لأُترك بعدها عدة أيام دون سؤال أو جواب. نهاية الأسبوع طُلبت لتحقيقٍ صباحي. ذات الرحلة من المهجع إلى غرفة التحقيق حيث استُـقبِلت باللكم والرفس والعفس. لم أدرك من أيِّ اتجاهٍ أُضرَب أو لماذا أضرب؟ السؤال اليتيم: «شو عامل ولاك؟ شو عامل، اعترف؟». استمرت الجلسة على ذات المنوال أكثر من ساعة، ثم بدأ صوت مختلف عن الأصوات التي ترددت منذ بداية الحفلة، بأسئلة مباشرة: «كيف انتسبتَ للماسونية؟ من نسبّـك إليها؟» لم تُعجبه الإجابات، فحوَّل الاستجواب لفَهم ميولي السياسية. استخدمت كلمات بشار الأسد بخصوص التغيير والأمل الذي أطل على السوريين، استعنت بعصاه السحرية التي حدثنا عنها كثيرًا، ثم اعترف لنا بأنه لا يملكها. أمرني المحققُ برفع الطماشة، لأنظر في عيونه مَليًا، ثم صفعني بقهر وقسوة، مكررًا سلسلة شتائم ترافقتْ بعبارة «مثقف يا عرصا ... مثقف».
تُركت ثانية في المهجع، كلما فتح الباب أظنهم يطلبوني لتحقيق. بعد أسبوع من الانتظار، وضم القدمين إلى الصدر من شدة الخوف منذ ساعات الصباح حتى إعطاء أمر النوم، فُتح الباب وطُلبت إلى التحقيق. صباح ذلك اليوم، نقل مراقبو المهجع خبر نزول المحقق «أحمد العلي» إلى قسم التحقيق. كان المعتقلون يراقبون، من قبوهم، أقدام المحققين عبر النوافذ الصغيرة المطلة على أرضية ممر غرف التحقيق في الطابق الأرضي. كان يُعرف «العلي» من صوت قرع حذائه المميز، وحمله لمسبحة بيديه المشبوكتين خلف ظهره. يقطع الممر جيئةً وذهابًا بانتظار صعود ضحيته من المعتقلين. لم أعرف أنني سأكون أنا ضحيته لهذا اليوم.
لحظة استلمني من السجان أمرني بارتداء الطماشة. جرني إلى غرفة التحقيق الأولى، وهو يكفر ويشتم ويزبد ويرعد ويتخلل صراخه عبارات: «أنت كذاب يا ابن الش... أنت كذاب». أُصِرُ على صدقي بالإجابات، وأَصَرّ على الشتم مترافـقًا بالصفعات واللكمات. ثم طلب من سَجانٍ يُدعى «شادي» أن يحضر أحد الجلادين. تبرع «شادي» لجلدي نافخًا صدره وضاربًا عليه كما يفعل الغوريلا الغاضب. إنْ هي إلا ثوانٍ قليلة وكنت عاريًا ومَبطوحًا على الأرض والكابل الرباعي يأكل من لحم ظهري وجنبي الأيمن. لم يسألني عن أيِّ شيء، فقط ضربٌ وشتائمُ وكلمة «كذاب». حافظتُ على الرواية الوحيدة التي أملك، بأن القصة وباختصار مجرد حديثٍ عابر بين طلاب ولا وجود للماسونية ومحافلها ولا لأيِّ أمرٍ خطير. أمرني بصوتٍ منفجر مجنون بحمل ثيابي والعودة إلى المهجع. عندها تعاملتُ مع الفرع وكأنه بيتي، نزلت الدرج بحرية ووقفت أمام باب المهجع بانتظار فتحه وكأنه باب غرفتي. يصير المهجع ملجأ لخوفك وحِصنًا يحميك من المحققين المتوحشين وجلاديهم المرعبين. لم يُغلق الباب حتى بادر شابٌّ حلبي لعلاج جراحي بسائلِ تعقيم يحتـفظ به رئيس المهجع لهذا الغرض. بالكاد فتح غطاء الزجاجة ومعها فتح باب المهجع وطُلبت للتحقيق ثانية.
ما إن أطلَّ رأسي من درج السجن، القبو، حتى أمسك بيدي جلاد وألبسني زميله الطماشة. جررت إلى مكان واسع ومفتوح، شعرت بتغير الضوء من تحت الطماشة. عريت من كل ثيابي إلا الداخلية منها، رفعت على كرسي معدني. ربط الجلاد كل يد بكلبشة معدنية ثم ربط طرف كل واحدة بماسورة معدنية مرتفعة. سحب الكرسي المعدني من تحتي ليستقر وزني على معصمي، وقدمي تلامس الأرض برؤوس الأصابع فقط. شعرت بروحي تغادرني عبر أصابع يدي، كبتُّ صراخي، فبادرني بالجلد على ظهري، بدأ الأنين يتسرب من بين أسناني. دقائق فإذا به يَغسلني بالماء البارد، فصرخت مستجيرًا بكل شيء، عندها سألني عن منسبي للماسونية، فأجبته: «اكتب ما تريد وأنا أبصم لك». عاد لضربي بشدة أكبر هذه المرة. دقائق قليلة ثم أنزلني الجلاد مُستعينًا بالكرسي المعدني. علمت عندما عدت إلى المهجع أن هذا التعذيب يسمى «الشبح». تعتبر طريقة التعذيب هذه شديدة الانتشار لدى أجهزة المخابرات السورية من عسكرية وجوية وعامة.
أُحمَلُ كالنعجة من القبو، من مهجع سجني، إلى ممرٍّ طويل بارد حيث أستلم «نظارتي الجديد» بحسب تعبير السجان، قاصدًا «طماشتي» المغمورة في دلو الماء القذر. أعرَّى تمامًا لأجلد كعبدٍ آبق، كأن الزمن يقفز خلفًا وتخلفًا بآن. يزداد غضبُ المحقق الجلاد دون مبرر، فأُحمَل ثانيةً إلى مهجعي. قليلا ويعاد حملي إلى الممر الطويل البارد. أعيد المشهد باحترافية هذه المرة، تُرمَى الطماشة على وجهي، وأترك معلقا كالذبيحة في الهواء. أُغسَل بالماء البارد وأجلد مرارًا وتكرارًا. أسمع شتائم أمي وأبي، الذين لا أعرف عيد ميلادهما بعد. أُجبَر على الاعتراف بما لم أفعل. عند نهاية مشهد التعذيب الاستعراضي المسرحي المرير، يطلبني المحقق الذي نظر في عيوني طويلًا، ليخبرني بأنهم يُدركون جيدًا بأنني لست ماسونيًّا، لكنهم يُعذبونني بعنايةٍ لأنني أدرك ما لا يجب إدراكه. إلى اليوم لا أعرف مقصده من هذه الكلمات: «إنت بتعرف زيادة».
أتمنى الخرس لنفسي. أعدُه ألا أتكلمَ طيلة أيامي القادمة، إذا ما خرجت من «هنا»، من سجني. يقفز محققٌ متدرب يقف عن يمينه، فرحًا بتكرير عبارة: «إذا طلعت من هون بعد عشرين سنة منبقى منحكي». ألفُّ ذيلَ خيبتي وأنزل إلى مهجعي الذي يحمل الرقم الثاني. أغـفو دون أن أنبس ببنت شفة. لا لأني جبان فقط، إنما لكوني لا أدرك أين أنا حقيقةً؟ أو ما الذي يجري من حولي؟ كل شيء عائم، كأن الأرض تخلت عن جاذبيتها. أغوص في عالم الضرورة حيث لا أقدر على التحكم بأي شيء. عالم كان يومها يفوق قدرتي على الفهم... هو عالم السجن.
يتبع...