السجين أو الميت، جسدان يُعرف مكانهما، ويذهب كل من يهتم بشأنهِما لزيارته. الأول في مقر الاحتجاز، والثاني في المقبرة. أما الجسد الذي اختفى أو غُيّب في ظروفٍ غامضة أو شبه غامضة، أو ما يعرف بالجسد «المختفي قسريا». ماذا عنه، وماذا عن أقاربه؟ وما هي فلسفة اختفائه التي وبالتأكيد ترعاها جهة ما، لاسيما عندما تكون هذه الجهة هي الدولة، كما في الحالة المصرية. من هنا نحاول معرفة وتفكيك، السياق التاريخي للدولة المصرية في حقّها (الغير حق) حيال امتلاك وابتلاع أجساد المواطنين.
يُعرَّف الاختفاء القسري حسب منظمة العفو الدولية، أنّه «اختفاء أشخاص فعلياً بعيداً عن أحبائهم ومجتمعهم. ويختفون عندما يقبض عليهم مسؤولو الدولة (أو أي شخص يعمل بموافقة الدولة) من الشارع أو من منازلهم ثم ينكرون ذلك الأمر، أو يرفضون الكشف عن مكان وجودهم. ففي بعض الأحيان، قد يقوم بعمليات الإخفاء عناصر مسلحة غير تابعة للدولة، مثل جماعات المعارضة المسلحة. والإخفاء يعد دائماً جريمة بموجب القانون الدولي». وهذا التعريف ينطبق تماما على الحالة الأرجنتينيّة الشهيرة، عندما اختفى 30 ألف مواطن أرجنتيني بين عاميّ 1976 إلى 1983، حيث اختطفتهم السلطة العسكرية بقيادة الجنرال الغاشم خورخي رافائيل فيدلا، وقد تبيّن لاحقًا، وإثر لقاءات مع مسؤولين سابقين، مصير البعض منهم، حيث قُتلو جميعهم بأشكال مُختلفة.
نوع آخر من الاختفاء القسري، وهو اختفاء مَجهول الفاعل على عكس الحالة الأرجنتينية، كما يحدث إبان الحرب والنزاعات المُسلحة، حيث يختفي الأشخاص، ولا يظهروا بعد ذلك سواء أحياء أو موتى أو سجناء وأسرى، ولا تتمكّن أي جهة قانونية أو صحافية للوصول إلى مصير هؤلاء المُختفين، كما العشرات من المُختفين، إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ولم يُعرف مصيرهم إلى الآن، ولا يُعرف أي جهة أو فصيل تحديدا، اختطفَهم وأين ذهبت أجسادهم بعد ذلك الخطف.
في مصر، ومع بدايات حكم محمد على (1805) وحتى وقتنا هذا، تغيّرت نظرة الدولة وفي قلبها السُلطة السياسية/الأمنية التي تحكم البلاد حيال أجساد المصريين. حيث لم يعد المصري جسدا يتعايش وفقا لرؤية خاصة، ويتفاعل مع السُلطات من حوله بشكلٍ طبيعي، بل بات يعيش ويموت وفقا لاحتياج هذه السلطة، ويُسجن ويختفي بيدها أيضا إن أرادت. وفي هذا يوضح المؤرخ المصري خالد فهمي، في كتابة السعي إلى العدالة بدايات هذا المنهج قائلا: «كان إنشاء الجيش هو الذي أدى إلى تحول كبير في مفهوم السلطة، فإن ممارسة السلطة لم تعد عبارة عن عملية قيادة للموضوعات، عن طريق التهديد بالقتل، من أجل الحفاظ على السيادة، وإنما أصبحت السلطة تمارس من أجل الحفاظ على الحياة، وذلك لسبب مختلف، هو إدارة الحياة وتحسينها، وإخضاعها لرقابة دقيقة وشاملة». وهذا برأي فهمي، كان سببا رئيسيا لإصرار الباشا على إدخال الطب الحديث في مصر، حيث كان يواجه خطر الموت بحق جنود الجيش من المصريين، فكان الطب الحديث هُنا أداة للحفاظ على حياة هؤلاء الأجساد من الموت، والذي بدونهِم، لن يتمكّن الباشا من تكوينه جيشه الحديث، وخوض هيمنته سواء داخليا أو خارجيا. [1]
حق الدولة في الجسد، تجلى بعد ذلك في مَرويات أُخرى، من أبرزها حادثة قتل أحد عاملي (عبيد كما كان مُتعارف عليه وقتها) سرايا إلهامي باشا إثر التعذيب. في يوم 6 نوفمبر عام 1858، وفي سراية إلهامي باشا ابن عباس باشا وهو أخٌ خديوي مصر عهدئذٍ سعيد باشا. في نهار هذا اليوم وقع العقاب على أحد عاملي (عبيد) حقل السرايا ويدعى سلطان العبد، حيث جُلد ما يزيد عن ألف جلدة بأمرٍ من ناظر الاسطبل عمر بك وذلك لتخلفه يومين عن ميعاد رجوعه إلى الاسطبل، لم يكتفي عمر بك برسم عقابه على جسد سلطان العبد، بل حرم جسده من التئام جروحه حيث أمر بمنع الطعام والشراب عنه، حتى زاد العذاب وفقدت الروح الجسد ومات سلطان العبد، اجتمع عشرات العبيد بعد انزعاجهم ممّا حدث لرفيقهم وهربوا من السرايا ذاهبين إلى الضبطيّة ناحية الأزبكية بالمحروسة (القاهرة حاليًا) وقد أبلغوا عن الحادث وبالفعل ذهبت قوة من الضبطية وقبضت على القاتل عمر بك، وبعد عدة أشهر عُوقبَ بالنفي خارج مصر غير عائدًا إليها مرةً أُخرى.
لا تدلّ هذه الحكاية في عُمقها على وحشيّة ذوات السرايا على العبيد العاملين لديهم أو حتى على عدالة الضبطية والمحكمة (الدولة) في القصاص للمقتول، فلو كان حُكمًا عادلًا لكان جُلد مثله حتى مات، أو وضع في السجن كعقوبةٍ أقل. مع العلم أن مَن كان يرتكب السرقة أو التشرّد أو الهروب من الجيش من عموم السكان في مصر كان يعاقب بعقوبات شديدة مثل القتل والجلد والسجن والوشم وقطع أجزاء من الجسد كاليدِ. ولكنّهم اكتفوا بنفيّه ليس لتحقيق العدالة، بل لأنه تجاوز حق الدولة في إنهاء حياة أحد الأجساد المسجّلة لديها، بل وأحد أدوات الإنتاج الحيويّة المملوكة لها وفقًا لنظريات السلطة الحيويّة عند الفرنسي ميشيل فوكو. [2]
ومع مرور العقود، توسّعت الدولة في حق امتلاك أجساد مواطنيها، بل وباتت منهجيّة تُعاملهم من خلالها وفقا لِهذا الحق. الحق في امتلاك أجسادهم، لاسيما إن كان هذا الجسد دون ذوي السُلطة، بأشكال السلطة المُتنوعة (السياسية والمالية). جسدا فقيرا ومَنبوذا، الدولة لها الحق في إحيائه ومَوته وتعذيبه وسجنه وهندسته كُليّةً، وهذا على عموم المواطنين. لكن، تعاملت الدولة وفي قلبها السُلطة السياسية باستراتيجيّة حق الامتلاك، مع الأجساد السياسة التي لا تُريدها، وحتى لو كانت غير مَنبوذة سُلطويا، لكنها نُبذت سياسيا، فيما يُعرف بحالة الاستثناء عند الفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين، حيث هنا الدولة أخذت حق، قتل وسجن وتعذيب وإخفاء (ابتلاع) الأجساد السياسية، التي فعّلت بحقها حالة الاستثناء/الابتلاع، أي التي تُريد عزلها عن الحياة كُلّها [3]
من بعد يوليو 2013، استثنت السُلطة السياسية التي رسّخت حُكمها تدريجيا، فئات سياسية مُعارضة لها، جماعات وأفراد، على رأسهم الإسلاميين وفي قلبهم أفراد الحركات العنّفية (المُسلحة)، بما أنّهم استخدموا القوة في مجابهة الدولة. أدى هذا الاستثناء إلى قتل (خارج القانون) وسجن وتعذيب عشرات الآلاف، كذلك أدى إلى اختفاء العشرات. حيث حسب منظمات حقوقية، تم اختفاء ما يقرب من 155 شخص، منذ يوليو 2013 حتى وقتنا هذا. لم يختفوا هؤلاء كُلهم مرة واحدة ولا في عام واحد ولا بطريقة واحدة، بل اختفوا على تقسيمات عدَدية وزمنية وقصصية مُتباينة. في الفترة ما بين 2014 إلى 2016 هناك 8 مواطنين اختفوا، وفي عام 2017 تم اختفاء 19 حالة، وعام 2018 هناك أكثر من 38 مواطن قيد الاختفاء. وبين عامي 2019 حتى نهاية 2021 مازال أكثر من 75 شخص قيد الاختفاء ولا يعلم مصيرهم، فضلا عشرات المختفين من محافظة شمال سيناء، ومن وبين كل هذا، اختفت قسريا 15 امرأة.
اختلفت وتداخلت تفاصيل حوادث الاختفاء القسرية، حيث كانت النسبة الأقل من نصيب الاختفاء أثناء التواجد بالفضاء العام، حيث اختفى البعض بعد أحداث عدّة، فض الاعتصام (رابعة العدوية) والاحتجاجات الشارعية، ولم يعرف أحد كيف اختفوا، يُرجّح حول هذا قبض الأمن عليهم، ومن ثم إخفائهم (قتلهم وإخفاء أجسادهم). أما النصيب الأكبر من هذه الحالات، كان إثر قبض الأمن المصري عليهم من مقرّات عيشهم وعملهم، ومن ثم اخفائهم لسنوات طويلة، والسؤال هنا أين هذا الجسد المصري التي أخذته السُلطة.
اتخذت السُلطة الأمنية الحالية في مصر، استراتيجية الاختفاء القسري عند قبضها على المواطنين المصريين، ويساعدها في ذلك، البنّيوية الضخمة للبيروقراطية الأمنية في مصر، حيث توجد مئات من مقرات الاحتجاز الضخمة المُتبانية في الاسم والصفة والدور، وهذا ما يُصّعب عملية البحث سواء من ذوي الجسد أو الجهات المعنية (الصحافية والحقوقية) على العثور وكشف مصير هؤلاء الأجساد. كما ليس شرطا أن يختفي الجسد سنوات طويلة كما هو في حالات سالفة الذكر، أشهرها البرلماني المصري السابق مُصطفى النجار، والذي اختفى من الفضاء العام منذ عام 2018 إلى الآن، بل أحيانا يظهر الجسد بعد أيام أو أسابيع أو شهور، معروضا على النيابة المُختصة بالقضية التي يُحاكم فيها، وأُخرى يظهر مقتولا، سواء مُصفّى جسديا، كما في حالة الشاب المصري عماد سامي، وعندئذٍ تقول السُلطات أنها قتلته إثر اشتباكات مُسلحة معه، لكن الحقيقة أنّها صفته جسديا خارج إطار القانون. وحالاتٍ اُخرى، ربما تظهر بقصص مُختلفة مثلما حدث مع المواطن المصري أيمن هدهود، التي قبضت عليه قوات الأمن في فبراير الماضي، وأخفَته قسريا لبضعة أسابيع. وخلال هذا الإخفاء، عذّبته تعذيبا شديدا، ومن ثم وضعته في أحد المستشفيات الخاصة بالصحة العقلية ويموت وهو قيّدها.
ومن هنا يتّضح، أن تفاصيل كُل حالة ربما تتشابه أو تختلف، حسب تفاصيل قصة الاختفاء والظهور من عدمه والمسؤولين عنها، إذ يَفْرط الجهاز الأمني في تعذيب المواطنين حتى الموت سواء بقصد أو دون قصدٍ، ووقتها يفكر المسؤولون بشأن مقتل هذا الجسد، كيف يتصرفون حياله. وعلى أساس إجابتهم، يظهر الجسد وتظهر معه قصته، ربما تكون قصة حقيقية أو من تأليف القتلى. وفي حالات أُخرى لا يظهر الجسد أبدًا، لأن السُلطة (القتلى) حينها، قررت أن تُخفيه للأبد، وتُخفي قصته، التي ربما تُدينها أو تُعرضها للعقاب من سُلطة أعلى منها، ترى أن قتل هذا الجسد ليس صحيحا، وسيُعرضها لذوبعة أو مسؤولية صحافية أو حقوقية أو قانونية ليس وقتها، وليس لها أي داعٍ، أو غير ذلك من أسباب، تخص صراع سُلطات في بعضها البعض.
وأخيرا، نُصوب النظر هنا تجاه مشاعر ذوي هؤلاء المُختفين والمَفقودين. الجسد هنا ليس جسدا ميتا أو سجينا، يمكن زيارته ومعرفة وجوده ومُستقرّه، بل هو جسد مفقود ومختفيٌ. يدور ذووه في دائرة مُفرغة، يفقدون الأمل في ظهوره بعد مرور سنواتٍ، وربما يتجدد الأمل في أحايين اُخرى. أمل يكمُن في أن هذا الجسد المُغيّب ما زال على قيد الحياة، سجينا في مكان ما، سيظهر مع الوقت، كما كتبت إيمان النجار شقيقة المُغيّب قسريا المواطن مصطفى النجار قائلة: «إحنا أهل مصطفى النجار لم نفقد الأمل دقيقة واحدة إن مصطفى عايش. وربنا أكرمنا وجائتنا شهادات من ناس شافوه بأعينهم خلال الأربع سنين مرة واتنين وثلاثة وأربعة. أولهم في سجن الشلال بأسوان في 2018 وآخرهم في 2022". هذا الاختفاء والتغييب هو حرمان، حرمان كُلي من الحياة والموت، للجسد وذويه، أو كما يصفه، الكاتب السوري ياسين الحاج صالح بأنّه "حرمان الأهالي من الحِداد بالتوازي مع حرمان المغيَّبين من الموت».
1- خالد فهمي، السعي إلى العدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة، ترجمة حسام فخر، دار الشروق، ط1 القاهرة 2022، ص 101
2- ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام، إفريقيا الشرق، المغرب ط1 2013، ص 116.
3- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ«الإنسان الحرام». انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.