يقول عالمُ النفـس اللبناني مصطفى حجازي في كـتابه «التخـلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، إنَّ: «عقـدةَ النـقص تجعلُ الخوفَ يتحكَّم بالإنسان المَقـهور: الخوف من السلطة، الخوف من قوى الطبيعة، الخوف من فقدان القدرة على المُجابهة، الخوف من شرور الآخرين. مما يُلـقي به فيما يمكن تَسميته بانعدام الكفاءة الاجتماعية والمَعرفية. فهو يتجـنَّب كل جديد، ويتجنب الوضعيات غير المألوفة... لذلك يَخـشى التجريب، ويتشبثُ بالقديم والتقـليدي والمألوف... من ثقافةِ الخوف يُولَد الإنسان المَقهور مُحـمَّلًا بكلِّ صِفاته وعـيوبه».
لأكون صادقًا، لم يُولَد هذا السؤال في رأسي إلا بعد سنواتٍ طويلة من تجربة الاعتقال. قبلها كنت أتعاملُ مع الخوف بكونه أمرًا إلهيًّا لا أملك القدرةَ على مُجابهته. طريقتي الوحيدة للتعامل مع الخوف تعلَّمـتُها من مسيرة الحياة وما تحملُ من احتمالاتِ «الخـطأ والصواب»، ويمكن اختصار النتيجة: بـ «أن تكونَ لا مرئـيًّا»، بلغةٍ أخرى «غائـبًا»، وعندها لن يُولَد الخوف في جَوفك. الامتناعُ عن اختيار نوع الطعام الذي تُفضل، الامتناع عن اختيار الثياب التي ترغب، الامتناع عن إعلان ألمٍ أصابكَ دون اختيارك، الامتناع عن رسم ابتسامةِ فرح. الغيابُ هنا وباختصار هو نوعٌ من أنواع «الموت».
إذا، هذا ما أردتُه من الامتناع عن الطعام، في فرع سعسع، وما رافقَه من نومٍ مُستمر ــ لم يكونا إلا تعبيرًا عن «موتي». إلا أنه لم يَـنفع، فقد نالني العذابُ الذي كنت أخشى.
سنواتٌ مرت قبل أن أستطيعَ ربط تلك الحادثة بمواقفَ سابقة وأخرى لاحقة، أملًا بتحليل مَنـبعها ومصدرها.
أذكر بعنايةٍ أنني بقيتُ بين إخوتي وأخواتي، ذاك الولد الصامت المُنطوي، حتى قاربتُ الثامنةَ عشرة من عمري، ولذا لم أتعرضْ إلا لـيَسيرِ تأنيبٍ أو ضربٍ على يدَي والدي أو والدتي. أخي الأصغر ناله النصيب الأكبر من تلك العقوبات. كان شديدَ الحركة والنشاط «مُشاغب»، وكنت شديدَ البطء والثبات «جامِد»، إلا أنَّ الجمودَ لم يكنِ الآليةَ الوحيدة لـتَعامُلي مع خوفي، الآلية الثانية كانت غرقي بالشعور بالذنب لوقتٍ طويل فأنالَ العفو عن خطأ ارتكبـتُه أو لم أرتكـبُه، كأنها تعويذة تُـنجي من الشرير. ذات يومٍ من أيام المدرسة، في الصف الثاني الإعدادي، دخل مدرسُ الفيزياء حاملًا أوراق اختبارٍ مُفاجئ، بالطبع حققتُ ومجموعة كبيرة من الطلاب أسوء النتائج كما العادة، فقررَ مُعاقبتـنا، وباشرَ بحسب ترتيب الجلوس. العقوبة «مسطرتَان على كل يَـد»، أي ضَربنا بالعصا على راحةِ كلِّ يَـدٍ مرتين، وكل ضربة تكاد تكسرُ المعصم. بقيتُ أراقب زملائي وهم يخرجون واحدًا واحدًا، مُتحصِّنًا بمقعدي الأخير، البعيد عن الحركة، الغائب وراء الرؤوس. انتهتِ الحصةُ الدراسية ولم يَصلني ومجموعة من الطلاب دورُ العقوبة. ضربَ لنا المعلمُ موعدًا لـنَيل الجزاء في الدرس القادم، أي بعد يومَين. بقيتُ طيلة هذين اليومَين بحالةٍ من النوم والحزن والغم والذنب، فلم أشاهِد أفلام الكرتون، ولا أكلتُ وبالكاد تحدثتُ مع أهلي. أذكر جيدًا شُرودي خلال هذين اليومَين، وإلى هذه الساعة كلما تعرضتُ لموقفٍ مُحمَّل بالخوف أستعيدُ تلك الصورةَ بوضوحٍ وجلاء. بعد يومَين، بادر أحدُ الطلاب المعاقبين بتَذكير مدرس الفيزياء بعقوبتنا المؤجلة. أخرجنا مدرسُ الفيزياء لـنَقِفَ بصَفٍّ واحد أمام السبورة. كانت قدماي تقصف من تحتي، ليست المرة الأولى التي أعاقَب بها، فأنا معتادٌ منذ الصف الأول على الضرب في المدرسة، لكنها عقوبة جاءت بعد انتظار. الانتظار يُضخِّم الخوف. عفا عنا مدرس الفيزياء بعد خطبةٍ عصماء عن العلم والمعرفة، وأعادنا إلى مقاعدنا.
بعد أن أمرَني المحققُ بـتناول الطعام مُهددًا بالـ «هناك»، وفعلت، انطلقتِ الحافلةُ المتوسطة الحجم تَقـلنا إلى دمشق. الـ «هناك» كان فرع المخابرات العسكرية 235، المعروف بفرع فلسطين وكان يرأسه يومها اللواء «مصطفى التاجر» الذي تُوفي عام 2003 بشكلٍ مُفاجئ في مزرعته. لم أُدرِك يومها أنني في حضرة أضخم فروع شعبة المخابرات العسكرية، بل هو أقرب لجهاز مخابرات مُستقل بذاته. يضم عددًا كبيرًا من المكاتب المَسؤولة عن معظم الملفات الحساسة على الساحة السورية داخليًّا وخارجيًّا. إضافة لمكتب «الضابطة الفدائية» الخاص بمُتابعة ملف الفلسطينيين ومنظماتهم على الأراضي السورية. يضم الفرع مكتبًا للأحزاب، ومكتبه الأول مَسؤول عن قضايا التجسس والتخابر، إضافةً لمكاتبَ بمخـتلف الاختصاصات. توسعتْ مهامُّ الفرع وأضحتْ تشملُ مطاردةَ الحركات الإسلامية والعمل على اختراقها ومحاولة تَوجيهها والتحكم بها. يقوم بهذه المهامِّ قسمٌ خاص بـ «مكافحة الإرهاب». العنف وشراسة التعذيب والإبقاء على المعتقلين في زنازينهم لسنواتٍ دون أيِّ صيغةٍ قانونية حفروا اسمَ فرع فلسطين في الذاكرة السوداء للسوريين وأنا منهم.
إذًا الـ «هناك» بالفعل مُرعب ومخيف. وهذا ما تتلمسُه مَسامات النفس من اللحظة الأولى، فما إن سلمتنا دوريةُ فرع سعسع، زميلي وأنا، إلى مدير سجن فرع فلسطين، وأعطته الأمانات ثم رحلت ــ حتى غرقتُ بحالةٍ أقرب للهلع الباطني، وجه جامد، وقلب يكاد يخرج مُحطِّمًا ضلوع صدري. ضرب مديرُ السجن، زِرَّ جرس مكتبه، فجاءَه سجانٌ بَدينٌ بشاربٍ ثخين يُغطي شفتيه. أشار له المدير بيده، فأخذَنا إلى إحدى غرف التحقيق، قبل أن يُعيدنا فرادى إلى مديره الذي فرزنا على المهاجع. يعاودني صوت المدير بعد كل هذه السنوات الطويلة، ثخين بطريقةٍ مميزة، حازم وكريه. أمرني السجان بارتداء «طماشة» من دلوٍ مَملوءٍ بالماء بدلًا من نظارتي الطبية التي دخلتْ كيس أماناتي. قبل أن تغيبَ عيوني وراء «الطماشة»، تأملتُ عبارةً قرآنية كُتِـبَتْ فوق مدخلٍ يؤدي إلى درج نازلٍ نحو القبو: {وَمَا ظَلَمْنَٰهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، ثم هبطنا درجًا طويلًا. السجانُ يُمسِك بيدي من الخلف ويدفعني قبل أن يُسلمني لسجانٍ آخر، بعد أن نقلَ له تعليمات المدير: «خوذ هالزبون... على الـ ٢». جرني السجانُ الجديد من يدي كزميله، وأوقفني عند باب المهجع الثاني على الجهة اليمنى من ممرِّ السجن. وجهي إلى الجدار وباب الغرفة على يميني، فتح الباب ودفعني بعد أن أخذَ مني «طماشتي».
بالكاد أجد مساحةً لـقدميّ. رائحةُ تخزين أجسادٍ بشرية تقتحم خلايا رئـتي. عيوني تكتشف المكان المُضاء بلمبةٍ صفراء صغيرة. وجوه مُصفرة لغياب الشمس، أو بدت هكذا نتيجةَ الإضاءة، لم أعرف السر حينها. استقبلَني رجلٌ مسنُّ، عرفتُ لاحقًا أنه من غوطة دمشق الشرقية. بدا ذا وجهٍ لطيف وهادئ إلا أنه مُعمَّم بالغضب بذات الوقت، حاجباه مَعقودان وعيونه تقدح شررًا. نظر إلى السَّجان بـتقززٍ قبل أن يغيب الأخير في ممرِّ السجن.
وصلنا الفرع في يوم إجازة، عيد الأم، 21 آذار/مارس 2002، ثم يوم العطلة الأسبوعي في سوريا، الجمعة. تلك الساعاتُ الطويلة أعطَـتني فرصةَ إدراك ما صرتُ إليه وأين أنا؟ وما الذي جرى ويجري؟
إلى اليوم لا أملك تفسيرًا واضحًا عن سبب ثِـقـتي برئيس المهجع، وبَوحي له بكلِّ تفاصيل قصتي، ربما لأنها بالفعل قصة لا تُصدق. قَطَّبَ حاجبَيه كعادته بغضبٍ مشوب بالحزن. كاد يبكي، فأشاح بوجهه عني طالـبًا من أحد النزلاء القدامى تسخين ماء الحمام، وغسل ثيابي. جاء شابٌّ من زاوية المهجع لـيَسألني إذا ما كنتُ أملك ثيابًا غير التي أرتديها. أجبتُ بالنفي، فأعطاني «شورتا» قطنـيًّا و«تيشرتًا» أبيض. خلعتُ ثيابي وأعطيتها للشابِّ المسؤول عن الحمام. عندما دخلتُ التواليت «التركي» الذي هو بذات الوقت الحمام، خلعتُ سروالي الداخلي وأعطيته إياه. عرفتُ أن السَّخان، ليس إلا قطعتي معدن، غطائَـي علب سردين، مربوطين ببعضهما بعضًا مع عَزلهما بقطع بلاستيك بينهما. تتصلُ كل قطعةٍ بطرف سلك كهربائي. يُعلَّق السلكان على مصدر كهرباء لمبة التواليت. يستقر السخانُ بدلوِ ماءٍ مُتمركز فوق المغسلة. عند غليان مائه، ناولَني إياه مسؤول الحمام لأضيفه إلى الماء البارد. قطعة صابون عسكري صغيرة، تُعتبر من أسوء أنواع الصابون في سوريا، كانت كافية لإنعاشي قليلًا في هذا الحمام الضيق. انتهيتُ سريعًا من الحمام، إذ لا يجبُ إشغال التواليت كثيرًا، فلا تمر عشر دقائق دون استخدامه. أكثر من ثلاثين معتقلًا في مهجعٍ أبعاده لا تزيد عن ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار ونصف المتر.
يضم المهجعُ تشكيلةً واسعة من المعتقلين، تُمثِّل المجتمع السوري بكلِّ أطيافه. المتدين، المهرب، المثقف، العسكري، الموظف الحكومي، الكبار، الصغار، الكُرد، والعرب. كان المهجعُ الثاني في فرع فلسطين سوريا صغرى. باشرَني رئيس المهجع ببعض التعليمات. لا يجب إصدار أصواتٍ مرتفعة. لا يجب أن تنظرَ بعيني السَّجان أو المُحقق. تخرج من الباب إذا ما طُلبتَ فتقف إلى جانب الباب ووجهك مُنكَّس نحو الأرض ومُوجَّه إلى الجدار. تُرافِق السجان بحسب أوامره دون أيِّ اعتراضٍ أو تلكؤ. لا تستفيض بالإجابة عن أيِّ سؤال. اخـتصِر بقدر ما تستطيع.
أذكر ملامح ذلك الرجل الهرم. عيونه مَمزوجةٌ بالغضب والحزن. كان من أهالي بلدة العتيبة التي لم يصلها منذ وصوله سوريا عائدًا من السعودية. حقائب سفره تجولُ معه في رحلته بين الفروع الأمنية الكثيرة التي زارها منذ سبعة شهور. أنهى كلامَه بوجوب الصمت والامتناع عن مشاركة أيِّ معلوماتٍ عني مع أيٍّ من المعتقلين الآخرين. المُخبرون في كل مكان، و«الحيطان لها آذان».
استقرَّ مقامي بجانب باب المهجع الذي يفتح إلى الداخل، كحال المستجدين. مقامُ نومك يرتفع كلما شربتَ من ماء السجن أكثر. أرضُ المهجع مفروشةٌ بالبطانيات العسكرية ووسائدنا كانت أحذيتنا أو معاطفنا الشتوية. ننام على الأرض، مسايفة، أيِ الكل على جنبه ملتصقًا بزميله. يوم ارتفعَ العددُ إلى 38 معتقلًا بِتـنا ننام تسيفًا، ولكن رأس ورجل، أي رأسك مقابل قدمَي زميلك. تعتاد سريعًا على الروائح الكريهة، الازدحام، الالتصاق، الجوع، أصوات التعذيب، وتتسربُ إليك الذاكرة الجمعية للمعتقلين.
أصِبتُ بعدوى خوف مُركز نقلَـته إلَـيَّ عيونُ المعتقلين. خوفٌ من صوتِ فتح باب المهجع، من طَرق السجان على الباب عند الساعة العاشرة ليلًا، مُطلقا أمره: «سيف.. على النوم». يُشكِّل المعتقلون فضاءهم الخاص، لغتهم الصامتة، العيون تتحدثُ ودقات القلوب الخائفة تُسمَعُ بوضوح. يُفتح الباب صباحًا لإدخال طعام الفطور الذي يقتصر على رغيف «خبز عسكري»، بِـضع حبات زيتون رديء جدًّا، وقطعة صغيرة من الحلاوة أو ملعقة صغيرة من المربى لكلِّ معتقل. الغداء غالبًا هو البرغل أو الأرز، المطبوخين بطريقةٍ سيئة جدًا، معهم مرق أحمر ورغيف خبز. العشاء حبة بطاطا مسلوقة ورغيف خبز. «بالخبز العسكري وحده يحيا المعتقل السوري».
تعلمتُ أن الخوفَ الذي عرفـتُه في حياتي السابقة ليس إلا درجة تَـتلوها درجات. الخوفُ في فرع فلسطين ذو رائحةٍ واخزة، تحمل بعضًا من بخارِ شياط جلدٍ مُحترق بقضبان الكهرباء، ما خـف من عفن الجراح الغائرة، غبار البطانيات العسكرية القذرة، عرق عتيق، براز يرفض الغياب، بول تسربَ بلحظةِ هلع، عطر السَّجان الرخيص، بخار أمعاء تتضور جوعًا وأفواه مُقفلة على العدم، ودخان سيجارة تدور على عشرين فم قبل أن تموت. الخوف هنا ينبضُ، يُشاغِـب، ويهتاج بين حين وآخر، يرسمُ بنصلٍ حادٍّ، يرسم عميقًا جراحًا لا تندمل أبـدَ الدهر.