يتضمن المشروعُ المسرحيُّ الذي يعمل عليه المخرج (رمزي شقير) منذ سنوات، ثلاثيةً مسرحيةً تتعلق بأبرز السجون السورية، وتعتمد بشكلٍ أساسي على شهادات المعتـقلين/ـات في العرضَين الأولَين، وعلى شهاداتِ الموظفين الأمنـيين والسجانين في العرض الثالث. في العام 2018، أنجِز العرض الأول بعنوان (إكس عدرا X-Adra) الذي قُـدِّمَ في مهرجان فاغابوند في فرنسا، وتتمركز دراماتورجيا العرض، الذي تعاونَ فيه مع المسرحي (وائل قدور)، حول شهاداتٍ من المعتقلين/ات في سجن عدرا، حيث تضمن العرض حكاياتٍ واقعية، أحداث سياسية، ومجموعة من موضوعات أدب الاعتقال.
ينهض المشاركون/ات في عرض (إكس عدرا) من بين الجمهور، يتحركون من الصالة إلى المسرح، بينما يُلقي كل منهم/ن شذراتٍ من حكاية الاعتـقال، شذرات تُعرِّف بها الشخصيات عن نفسها وعن تاريخ حادثة اعتـقالها، وتفتح على الأسئلة الأساسية في حكايتها. تروي الناشطةُ الأولى حكاية الفعالية التي خططتْ لها ونظمتها مع صديقاتها الأربعة ومن بينهن أختها الصغرى، في مدخل سوق مدحت باشا، بتاريخ 21-11-2012 بعنوان (عرائس الحرية) حيث وقفن لمدة 15 دقيقة في أكثر أسواق العاصمة اكتظاظًا وهن يرتدين فساتين الأعراس البيضاء ويرفعن لافتات: «بدنا نعيش حل تاني، سورية لألنا، المجتمع المدني يطالب بوقف جميع العمليات العسكرية». تقول الشاهدة: «أحسست اليوم عرسي، لحظة كسر الخوف حواتي، وبداية تحدي كبير». ومن بعد تفاعل الجمهور معهن، تعرضت الناشطات للاعتقال وبقين 24 ساعة بملابس العرس ــ فساتين الزفاف. وفي الحكاية الثانية، تُطلعنا الصحفية على حدثِ اعتقالها مع صديقها بينما كانت تحاول إيصالَ المساعدات إلى المحتاجين المرضى في مناطق النزاع، وتروي عن تجربة العبور فوق جثث الموتى من ضحايا التعذيب، للبحث عن جثة صديقها بينهم: «جثث بلا ملامح بسبب الدم والقيح والجروح».
تتخلل العرض مجموعةٌ من التعليمات التي تُلقيها الجوقة على المسرح، وهي نصائح تتعلق بكيفية التصرف وتعليمات السلامة المتـناقلة بين المعتقلين/ات:
قللي المعلومات يلي عم تعطيها للمحقق،
تذكري كل شي حكيتيه بالتحقيق خصوصي الكذبات،
خلي أجوبتك قصيرة،
لا تعترفي بشي حتى لو هددوك بالاغتصاب،
لا تغيري أقوالك.
ومثلتْ أقدم تجارب الاعتقال في العرض، الناشطة السابقة في حزب العمل الشيوعي، التي اعتُـقلَت مرتين في سنوات الثمانينيات، امتدت المرة الثانية من العام 1984 وحتى ثمانية سنوات. تروي عن تجربة اعتقالها طيلةَ تلك المدة في القسم المخصص لـنساء تنظيم الإخوان المسلمين، الإخوانيات رفضن استقبالها معهن بالبداية: «ما منك وحدة كافرة معنا»، وتقول المعتقلة: «عاملوني بقسوة، رفضن وجودي».
وتروي المعتـقلةُ السادسة تجربةَ مرورها أربع ساعات في سجن عدرا للرجال: «على الطرف اليمين رجال عراة، على الطرف اليسار ممر كامل من رجال يرتدون بدلة السجن البيضاء والرمادية»، كأن رجال سورية مُقسَّمون بالمصير بين العري والاعتقال. وتُخبر المعتقلة السادسة عن حادثة إجبارها على تصوير اعترافٍ تلفزيوني بأفعالٍ لم تفعلها، كانت تريد إنهاء عذابها فوافقت على التصوير، رغبت أن تُطمئن أهلها عن بقائها على قيد الحياة.
في تجربةٍ لبنانية سابقة، قدم الثنائي (لقمان سليم، مونيكا بورغمان) فيلم بعنوان (تدمر، في العام 2016)، والذي قدم تاليًا كعرضٍ مسرحي من إخراج (عمر أبي عازار، جنيد سري الدين) والذي يروي شهاداتِ مجموعةٍ من المعتقلين اللبنانيين السابقين في سجن تدمر. تنص مقدمةُ الفيلم عن فكرة المشروع الفني:
في لبنان، لم يقع ضجيجُ انـتفاضة الشعب السوري 2011 في آذان صماء، ومن هذه الآذان، آذان مجموعة من المعتقلين السياسيين السابقين في سجن تدمر. بعد فترة من الاستعداد ومن التهيؤ، أًنِسَ لهؤلاء الرجال من أنفسهم السعة على الغوص في ظلمة تلك السنوات، وعلى استرداد تلك الفصول المريرة من أعمارهم، ومن سِيرهم. في مدرسةٍ مهجورة على كتفٍ من أكتاف بيروت، أنشأ هؤلاء الرجال تدمرهم. وعلى خشبة هذا المسرح الذي استحدثوه بأيديهم، تناوبوا على تقمص أدوار الضحية وأدوار الجلاد.
ونُـتابع خلال الفيلم اللقطات الافتـتاحية التي يُعد فيها المشاركون المكان الخاص لإعادة تجسيد السجن، أعمال بناء السجن وتوضيب المكان لأجل تجسيد السجن أمام المتفرج، وضع الأحجار، الباطون، الحديد، تركيب الأبواب، طاقات التفـتيش. تتوالى الحكايات المروية في لقطاتٍ أو مشاهد مسرحية ثابتة، ويُركِّز الفيلم على طرق المعاملة في تدمر وعلى أساليب التعذيب، ويعيد تجسيد حياة السجناء اليومية: دوريات العد، تبديل غالونات المياه، تقسيم سلطة المهجع، الخروج للتـنفس. وكذلك تعيد المشاهد الفيلمية تصويرَ وضعيات السجناء الجسدية، الأجساد داخل المعتقل، أساليب الوقوف والنظر والالتصاق بالأرضية وبالحائط في وضعيات أخرى.
أيضًا في حكايات عرض (إكس عدرا) تَحضر القصصُ الخاصة بتجارب التعرض للتعذيب. تروي أحد الشاهدات عن حكاية اغتصاب صديقـتها منال من قِبل رجال الأمن ليلة رأس السنة، عن لحظات عيش التجربة: الصمم، العجز، الصراخ، رؤية خروج الدم، صرخة فقدان العذرية بالاغتصاب، ذكرى الحادثة وصدى الصرخة ما يزال مستمرًّا في ذهنها. وتقول إحدى المونولوجات في العرض:
شو لازم قول؟
شو لازم خبي؟
أنا ضعيفة وهاد الوجع قوي.
وتتضمن تعليمات السلوكيات في السجن أيضًا نصائح فيما يتعلق بالتعذيب:
وطي راسك وقت يضربك،
اوهمي حالك إنو ما عم تتوجعي،
إنو جسمك قوي ورح يتحمل، لا تستفزي المحقق.
إذا بتأمني بألله، ادعيلو.
بالمقابل تُركِّز اللغة السينمائية التي تسمح بها الكاميرا في فيلم (تدمر) بالتركيز على تعابير الوجوه وأداء مشاعر الخوف والارتجاف، وتمثيل الانتظار واليأس، مشاعر الهلع ولحظات الوحدة، أوقات الاعتـناء بالجروح. كما ترصد العدسة تعابير الوجوه والحالات الانفعالية.
على عكس المتوقع بأن المعتقل/ـة مفرد ووحيد، فإن العديدَ من حكايات المعتقلين تتضمن علاقةً مع آخر. فها هي الناشطةُ الصحفية تُعتـقَل مع صديقها (خالد) الذي تشعر تجاهه بالأسف لأنها تعتـقد أنه تورطَ معها في قضايا لا تعنيه، تهتم المعتـقلة أن تُوصل لصديقها الاعتذار، يخبرها عن الحب الذي يكنه لها. في المقابل، تُوظَّف علاقةُ الثنائي في أساليبَ للضغط عليهما للحصول على المعلومات والتعذيب المعنوي. كانت الصحفيةُ تسمع التعذيب والذل الذي تعرضَ له صديقها خالد، تروي الضغط الممارس: «هي الشرموط تبعك»، يجيب خالد: «هي صديقتي». وهذه الحكاية بالتحديد تتحول تاليًا إلى واحدةٍ من حكايات الاختـفاء القسري، خالد اختـفى، لا يعرف مصيرَه الآن، قالت عائلته بأنه مات، لكن صديقـتَه ما زالت في انتظاره. تُحادث المؤدية المختفي قسرًا عبر مونولوجها المسرحي: «بعدني ناطرتو لنلف كل شوراع سورية سوا». تُخاطب المؤدية خالد المخـتفي قسرًا عبر خشبة المسرح: «أنا كنت حس بحبك لألي، أنت عم تخاطر مشاني ولا مشان يلي بتؤمن فيه؟ ورح تضل أغلى صديق عندي، واشتقتلك كتير».
من مقولات الجوقة الجماعية في المسرحية، عن الذاكرة:
تذكري أشياء كنتي تحبي تعمليها من قبل ما تصيري هون،
تذكري وجوه أهلك وأخواتك والناس يلي بتحبيهم،
خليك عم تحاولي
ذاكرتك هي كل شي بتمليكه،
تذكري كل شي حافظتيه،
أغاني شعر قصص نكت قرآن،
وساعدي غيرك ليساعدوكي.
ما يُـفاجئ أيضًا في شهادات الاعتقال هو حضور عنصر الطفولة في أكـثر من قصة، تروي المعتـقلة اليسارية عن حكاية وصول عائلةٍ إلى سجن تدمر من أم وابنـتَيها وطفلة رضيعة سمية، ولدت في السجن، وتعلقت بها المعتقلة هند للغاية: «دبت الحياة في السجن مع هي الطفلة، صرنا نغني ونلعب وناكول وتنام معي بالفرشة». حاولت إخراجها بنزهات مع أخيها خارج السجن، وهناك اكتشفوا عجزها عن تمييز الألوان، ارتبكت الطفلة في الزحام والضجيج. في النهاية تضغط نساء تنظيم الإخوان المسلمين على والدة الطفلة لـتُبعدها عن معتقلة الحزب الشيوعي، خافوا من تأثير أفكار هند على الطفلة. وتروي شاهدةٌ أخرى على حكاية طفلٍ ولد وترعرع في السجن وهو يرفض الخروج إلى العالم، تُـقابله الشاهدة في غرفة الضابط، طفل يرفض الرحيل عن السجن لأنه بلا مأوى أو مأكل، يحاول الضباط طرده من المكان، بينما هو يقول لهم بأنه يحبهم ويرغب بالبقاء هنا حيث لا أهل له ولا أحلام ولا مستقبل في الخارج: «أنا بدي ضل هون معكم».
في فيلم (تدمر) يُخبرنا الشاهد عن تجربة خمس سنين متـتالية قضاها في سجن المنفردة، وصل به الأمر إلى الشك في قدرته على التحدث والتواصل، فلجأ إلى أحاديثَ مستفيضة مع الحشرات من النمل والصراصير التي تُشاركه الزنزانة، يقول: «5 سنين منفردة، وحضور الأفكار الانتحارية، لكن قتلَ النفس حرام في ديننا، ويستمر الأمل بعد كل جلسة تعذيبٍ أرجع حـيًّا، أحمد الله وأضحك من جديد، أتحادث مع النمل والصراصير لأختبر إن كنت قادرًا على التواصل».
ويروي الفيلم، كيف يُعيد تجسيد الكثير من حالات الجنون العصابي، أو فقدان القدرة على الاستمرار، والإقدام على تصرفاتٍ متهورة كالتهجم على زملاء السجن أو السجانة. وبعد خمس سنين منفردة يطلب السجين من السَّجان إما نقله إلى مهجعٍ جماعي أو تنفيذ حكم الإعدام بحقه.. أي إما التواصل أو تفضيل الموت. بينما تَروي الشاهدة في مسرحية (إكس عدرا) عن الآثار النفسية التي ما زالت تُعانيها حتى اليوم، فهي تنام متكورة، وتشعر بخوفٍ مُستدام، تخاف العتمة حيث ما زالت تراودها أصوات من ضحايا التعذيب.
تقول المغنية (لبانة القنطار) في النشيد الختامي للعرض، بما يتضمن العلاقة بين المستقبل والذاكرة في المعتقل:
لما بدي أتطلع للحرية، أول شي رح اعملوا وقت اطلع، بدي أتأمل وجهي منيح بس ما رح أعرف مين صاحبو، رح سافر، روح بعيد عيش ببلاد ما بعرفها، رح ضل عم فكر بالناس يلي تركتون ورايس، هنن الوحيدين يلي بعرفهم منيح، المعتقلين، كل شي رح يرجع يرجعني لهون، ريحة، شكل، صورة، حلم، اسم، كل شي.
أثناء إلقاء الجوقة الجماعي، تكتب المشاركات المسرحيات على خشبة المسرح كأنهن يكتبن على لوح الطبشور، تعليمات التصرف لعبور الاعتقال على قيد الحياة:
كلي كل شي بيتقدم، كلي ع مهلك،
استفيدي من أي غرض،
قطعة قماش للدورة الشهرية،
قطعة فحم قلم للحيط،
قنينة صغيرة تواليت،
إذا شعرك طويل ضبيه لأنو رح تقملي.
يهتم المخرج (رمزي شقير) بقضايا الجندر وحقوق الفئات الجنسانية المهمشة، وهو يدمج في عرضه حكايةً استثنائية عن تجربة عبور جنسي يرويها (علي حميدي) عبر رسالةٍ كتبها إلى أمه في أيام الاعتقال، يقرأها على الجمهور في الصالة، تروي خياراته السياسية والجنسانية، وإرادته بالتحول إلى الذكورة:
يا أمي، أنتي أكتر حدا بحبو، بدي قلك شي مش رح يرضيكي، بدي قلك أني بحياتي ما كنت بنت ولا رح كون، ماتزعلي مني لأنو بعرف أني مارح أرجع شوفك بحياتي، أنو انا هلق هون بمكان كلو قهر وذلك وتعذيب، هادا المكان بيعلم الواحد شو يكون، هون بتعرفي أنو مافي شي محرز بالحياة غير الحرية، هادا شي عطاني الشجاعة لأحكي مين أنا، علا البنت ماتت هون وما رح تطلع أبداً، أنا ابنك أبداً مو بنتك، هاد الشي انفرض عليً، أنا هلق هون علي، أنا رح كون علي ومارح خاف من شي، لأنو خلقنا لحتى نعيش.
أهمية الروي والعرض المسرحي للمشاركين/ات:
في واحدةٍ من حكايات فيلم (تدمر) وحين يضطر السجينُ أن يُخفي حقيقة لوحده، دون مشاركتها لزملائه، أثر تبول العسكر في طبق الطعام السنوي، يقول الشاهد أنه فكر بما عليه فعله حين الخروج، يقول: «فكرت فورًا شو لازم اعمل وقت اطلع، فكرت إنو بس لما اطلع بدي خبرها أو اكتب عنها». عبارات أو مشاعر كهذه تُبيِّن حاجةَ السجناء إلى الروي والإفصاح عن تجاربهم الذهنية والنفسية. أيضًا يحضر هذا الإصرار على الروي من خلال النشيد الختامي الأخير الذي تقدمه المغنية (لبانة القنطار) في نهاية العرض والذي يركز على تحقيق هذا العرض المسرحي الذي أمامنا في الصالة كجزءٍ من مشروع استمرارية النضال والمحاولة عبر الفن:
لما رح اطلع من هون رح ضل هون، رح آخود معي شجني وين ما بروح، يمكن ما حدا فيو يطلع تماماً من السجن، إلا إذا رجع وفتح الزنازين بأيدوا وعباها شمس وهوا، وقتها بس رح كون عنجد طلعت من السجن. يمكن اعمل مسرحية، احكي فيها مع جمهور ما بعرفو، عن معتقلة ما بيعرفوها.
معلومات العرض المسرحي:
العنوان: إكس عدرا
إخراج: رمزي شقير
دراماتورج: وائل قدور
أداء: آيات أحمد، هند قهوجي، علي حميدي، مريم حايد، رويدة كنعان، كندو زاور
غناء: لبانة القنطار
عُرض في مهرجان فاغوبوند فرنسا 2018.
معلومات عن الفيلم:
العنوان: تدمر
إنتاج 2016
إخراج: لقمان سليم، مونيكا بورغمان
المشاركون: علي أبو دهن، ريمون بوبان، سعد الدين سيف الدين، مصطفى شمس الدين، موسى صعب، إلياس طانيوس، رشيد ميرهم