صديقاتي وأصدقائي، يُولَد الإنسان دون خطايا أو تجارب، منطـقـيًّا على أقلّ. ثم تَعجـنه الحياةُ وتعيد تَشكيله لـيَصير ما هو عليه. ربما لا تـتـفِقُ كلُّ الآراء الفكرية والفلسفية بأنَّ السِّجنَ السياسيَّ أبرزُ تجربةٍ يَعبرها الإنسان... إذ تُـنافسه تجربةُ موتِ الأحبة، أو الحصار، أو الحرب، أو المرض العُضال... لكن مَن قال إنَّ السجنَ في سوريا لا يُقارِب هذه التجاربَ من حيث المضمون والأثر؟ في هذه النصوص التي ستأتيكم أسبوعـيًّا، نرحلُ معًا في خِضَمِّ هذه التجربة، التي افـترضتُ لها اسمًا، هو: «من دمشـقَ إلى الغـولاك».
صباح يوم الثلاثاء 15 أيلول عام 1987، أوصلَـني والدي، في يوميَ الأول، إلى مدرستي الابتدائية. حيث البناء الحجريّ القديم والأنيق ذو السَقف المرتفع والنوافـذ الواسعة، تُحيط به باحاتٌ كبيرة. أنهى والدي توقيعَ بعض الأوراق الرسمية في غرفة الإدارة، ورحَـل. سلَّمـني لمدير المدرسة، رجـلٍ أكبرَ منه سِـنًّا، ذي جسدٍ نحيل جدًّا وتُـغطِّي معظمَ وَجـهِه نظارةٌ طِبـية عملاقة. أمرني المديرُ أن ألتحِقَ بزملائي في صفٍّ طويل نقفُ فيه خلف بعضنا بعضًا وسط الساحة الأمامية للمدرسة. ترادَفـنا بـلباسنا التُّـرابـيِّ المُوحَّد، غرباء عن أشكالنا الجديدة. بدأتْ مراسمُ الصباح المدرسية بإيعازاتٍ عسكرية: (استَـرِحْ! – استَـعِدْ! – المجموع رتـلا ترادف.. أســبـل!).
ثم رفَعنا أيدينا بحركةٍ «نازية» لـنَـتـلُـوَ العهدَ البَـعـثِـيَّ الطلائـعي. افتَـتـحه عَـريفُ المدرسة بكلمة: «عَـهْـدُنا». أجـبـناه بصوتٍ جماعيٍّ حماسيٍّ غاضب: «أن نَـتصدَّى للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وأن نسحقَ أداتَـهم المُجرمة، عصابةَ الإخوان المسلمين العَميلة». كلُّ شيء بدا وما زال غريبًا وصادمًا وغير مفهومٍ بالنسبة لذاك الطِّفل الذي كُنـته.
حشَرَنا بعدها المدرسون في صفوفٍ واسعة ومقاعدَ ضيقة جدًّا. أكثر من أربعين طالبًا في كلِّ قاعة. جميع القاعات مُتشابهة، سبورة خضراء كبيرة تعلوها صورةٌ للرئيس السابق حافظ الأسد مبتسمًا بـتَجـهُّم. يَنظر بعيونه الذابلة إلينا كأنه يقول: «أراكُم جميعًا». تحت الصورة كُتِبَ شعارُ حزبِ البعث العربي الاشتراكي «أمةٌ عربية واحدة... ذاتُ رسالةٍ خالدة... أهدافنا: وحدة، حرية، اشتراكية... قائدنا إلى الأبد: الرفيق حافظ الأسد». عشَّـشـتْ تلك الصورةُ في ذهني إلى اليوم، وربما في أذهانِ معظم السوريِّـين. حافظ الأسد، حاضرٌ في كلِّ مكان: في المدارس، الدوائر الحكومية، الجامعات، المساجد، الكنائس، مخافر الشرطة، وحتى في السجون. ثم بات حاضرًا رفقة ابـنه البِكر الذي قضى في حادثٍ سَيرٍ على طريق مطار دمشق يوم الجمعة 21 كانون الثاني 1994. بعدها بعامٍ بدأتْ صورُ بشار الأسد، الرئيس الحالي، تتشاركُ الجدرانَ رفقة صورِ والده وأخيه «الشهيد». لكُلٍّ لقبه الخاصّ، فالأب هو «القائد المُفـدّى الأبدي»، باسل هو «الشهيد الرائد الركن المهندس المظلي الفارس»، أما بشار فـ «الأمل المنتـظَر للسوريِّـين».
يوم الثلاثاء 19 آذار عام 2002، قـرَّر ضابطُ مخابراتٍ عسكرية اعتقالِـي بعد 48 ساعة من التحقيق. كنت يومها طالبًا مُستجدًّا في المعهد الصناعي بمدينة القنيطرة المستعادة من إسرائيل عقب حرب عام 1973. طُلِـبْـتُ ومجموعةٌ كبيرة من زملائي إلى فرع المخابرات العسكرية للـتَّحقيق بتهمة فتحي بابَ الانـتساب إلى المَحفل الماسوني بين صفوف طلاب المعهد! أحد هؤلاء الزملاء امتلكَ يومها خبرةً في كتابة التقارير الأمنية، وفعَلها بحَـقِّي بعد خلافٍ تافه. كُــتابُ التقارير، «المُخـبِرون»، ثقافةٌ بَعـثية بامتياز. تَفرِضُ قياداتُ الفِرَقِ والشُعب الحِزبية على أفرادها المستجَدين كتابةَ تـقاريرَ بزملائهم. يبدأ الرفيقُ الحزبي بالوشاية البسيطة، حيث ينقل لقيادته معلوماتٍ من مقامِ المواقف الثقافية والإيديولوجية لزملائه. تتطـوَّر حالةُ المخبر ليَصير عميلًا سريًّا لدى أجهزة الأمن على اختلافها. يُقـدِّم خدماتِـه كـ «فريلانس»، أي يُدفَع له مقابل التقرير وأهميته. تتسِعُ حدقةُ خيال المخبر لـتَلبية الطلب المتزايد من قِبَلِ هذه الأجهزة، فيختلقُ القصصَ والأحداث. يصل الحدُّ ببعض المخبرين إلى كتابة تقاريرَ بأهلهم وأحيانًا بزوجاتهم أو أزواجهنّ.
يوم ورثَ بشار الأسد كُرسِيَّ الرئاسة عن والده عام 2000 أشاعتْ أجهزةُ المخابرات «نِـيَّـتَها» محاربة ثقافة «التقرير، والمُخـبِر». أما زميلي، المخبر، فكان من عائلة رئيس المخابرات الجوية يومها، «عز الدين إسماعيل» ما وضع تقريره في موقعِ اهتمامٍ أمنيٍّ رفيع. طُلِـبْـتُ وزملائي إلى الفرع حيث أخضَعَنا عناصر برُتَـبٍ لا تتجاوز «المُساعد أول» لجلساتِ تحقيقٍ مُوسَّعة عن ميولنا السياسية. «ماذا قال فلان؟ وماذا ردَّ عليه علان؟» ضربوا كلَّ مَن جاء معي، حتى «المخـبر». المُفارقة أنني لم أتعرَّض لأيِّ تعذيبٍ أو تعنيف. انتهتْ تلك الجولاتُ التحقيقية في فرع المخابرات العسكرية ذي الرقم (220) المعروفِ باسم «فرع سعسع»، بتَوقيفي وصديق شاركني بضعَ صفحاتٍ مُصوَّرة من كتاب مذكرات التاجر السوري الشهير «بدر الدين الشلاح». يتحدَّث فيها «الشلاح» عن علاقـته بالماسونية الدمشقية، ورئاسته خلفًا لوالده «محفل إبراهيم الخليل».
أذكر يوم اعتقالي جيدًا. وصلتُ الفرعَ في الصباح الباكر. أُجـبِرْتُ على الانتظار أمام باب العقيد نائب رئيس الفرع. أُدخِلتُ إليه بعد أكثرَ من ساعةٍ، فإذا به يحتلُّ مكـتبًا واسعًا بفرشٍ مُتكلِّف وصور آل الأسد تُغطِّي جدرانَـه. صورةُ بشار الأسد ببزةٍ عسكرية احتفالية تتوسَّط صورةَ والده وأخيه الراحلَين. جلس العقيد، خلف طاولة مكتبٍ عملاقة. كان رجلًا بدينًا ببزة مدنية أنيقة وعيون تَطفح بالاحتقار. قَـلَّبَ صفحاتِ ملفِّ تحقيقي بمَلَلٍ وازدراء. وقف مُهـتاجًا من خلف مكتبه صارخًا بوجهي سلسلة شتائمَ ونعوتٍ بذيئة تَعجز عن جمعها القواميس. الْتـقطَ أنفاسَه اللاهثة بعد تلك الجولة المباغِتة، ثم سألني عن معرفتي بالماسونية وأصولها. أجبتُه بما أعرف وما قرأتُ عنها في كتبِ تَـثـقيف حزب البعث، مؤكدًا استحالة انتمائي لهذه الجمعية. أمسكَ بأوراقِ التحقيق لـيَسأل عن كتاب «الشلاح»، فأخبرتُه أنني سأحضر ما لديَّ منه، معي في الغدّ. تقطَّـعتْ ضِحكـتُه الساخرة بعبارة: «أنـتَ ضَيفُـنا من اليوم! »
... يُـتــبع.