يوجد نوعان من السجون: سجونٌ مَدنية، وسجون عسكرية، تَحكمهما قوانينُ وأنظمةٌ مختلفة
من الأماكن التي لا تكاد وسائلُ الإعلام، إلى وقتٍ قريب، تُفكِّر حتى في الاقـتراب منها في الجزائر ــ بعد الثـكـنات العسكرية ــ نجد السُّجونَ، مع أنَّ السلطاتِ أبدتْ أكثر من مرةٍ نِـيـتَها في فتح أبوابها لكلِّ المحققين والعاملين في مجال حقوق الإنسان للتحرِّي عن مدى احترام حقوق النزلاء الأساسية. إلا أنَّ التحقيقاتِ والاستطلاعات القليلة التي أُجرِيَـتْ لا تُلامس إلا الواقعَ السطحي الذي يَعيشه نزلاء هذه القلاع المُسَـيَّـجة. وعادةً ما يكتفي الصحفيون بشهاداتٍ مُتشَظِّـيةٍ ويصعب التحقق من صحتها، يَنقـلها محامون عن زبائنهم وعن أحوالهم ويومياتهم داخل أروقة السجون.
هذا، وتُشير أغلب التقارير إلى تحسُّنٍ مَلحوظ في شروط حياة السجناء في الجزائر نتيجةَ الإصلاحات الهيكلية التي أُجرِيَـتْ خلال العقدَين الماضيَين (بناء سجونٍ جديدة بمقاييس عصرية، مع غلق عددٍ من السجون القديمة، اعتماد التكوين... إلى غير ذلك) مُستَـدِلَّـةً بتناقص الشكاوى من قضايا التعذيب وسوء معاملة السجناء.
في الجزائر، يوجد نوعان من السجون: سجونٌ مَدنية، وسجون عسكرية، تَحكمهما قوانينُ وأنظمةٌ مختلفة. السجون المَدنية تشمل المؤسساتِ العقابيةَ ومؤسسات الوقاية وإعادة التأهيل والتربية، ومراكز مُتخصِّصة، للنساء والأحداث. أما السجون العسكرية، فهي مُتخصِّصة لعناصر المؤسسة العسكرية وكذلك، في حالاتٍ معينة، للمدنـيِّين المُـتابَـعين في قضايا أمن دولة كمحاولات الانقلاب على الحكم أو المساس بأمن الدولة. مع فارق أنَّ السجون العسكرية لا يُسمَح فيها بـحَبس العنصر النسوي، إذ تُوجَّه المحكوماتُ عليهن بأحكام سجنٍ فيها إلى سجون مَدنية مُتخـصِّصة.
قُـدِّر عددُ السجون في الجزائر في سنوات التسعينات بحوالي 130 مؤسسةً عقابية، تَـتبع إداريًّا لوزارة العدل. مع تزايد عدد السجناء بحُكم النمو الديمغرافي من جهة، وانتشار الآفات الاجتماعية كالجرائم والعنف الزوجي، وتجارة المخدرات والممنوعات الأخرى مثل المهلوسات، وكذلك الإرهاب وكثرة الاحتجاجات وأعمال الشغب، من جهة أخرى ــ تحـتَّم على السلطات تَشيِـيدَ سجونٍ جديدة، في المدن الرئيسية، ولقد وصل عدد السجون الجديدة إلى 81 مؤسسةً في سنة 2018 حسب إحصائياتٍ رسمية.
ومن أهمِّ المؤسسات المُستحدَثة، نذكر السجنَ الجديد الذي شُـيِّـد في ضاحية مدينة بجاية (التي تبعد بمسافة 280 كلم عن العاصمة) والمعروفة بكثرة حركاتها الاحتجاجية منذ بداية سنوات ألفين، التي نجمَ عنها تزايد عدد المعتقلين السياسيِّين وكذلك المتابَـعين في قضايا الإخلال بالأمن العام وتَخريب أملاك عمومية.
من جانبٍ آخر، لا يزال نظام الزيارات في السجون الجزائرية خاضعًا لـنظامٍ مُشدَّد بالرغم من كلِّ الإصلاحات المُطـبَّـقة في هذا المجال، بحيث لا يُسمح سوى لأفرادِ عائلة السَّجين فقط بالزيارة، يَستصدرون رخصةً من المحكمة التي تتـبعها المؤسسة التي يوجد فيها السجين موضوع الزيارة. والزياراتُ في الغالب أسبوعيةٌ وفي بعض الحالات مرتَين في الأسبوع. يُسمَح للزوار بحمل موادّ استهلاكية ومأكولاتٍ مُعـيَّـنة، ويُمنع عليهم موادُّ ومنتجاتٌ معينة مثل الموز أو فواكه أخرى يمكن أن يُشتـبَه في أن تُـدسَّ فيها موادُّ حادةٌ أو مخدرات.
اللقاءُ مع السَّجين يَجري وراء ستارٍ زجاجي سميك لا يَسمح بأيِّ ملامسةٍ أو لقاءٍ جسدي، حتى بين الأزواج. والزياراتُ عادةً لا تتجاوز 20 أو 30 دقيقة.
أكثر ما يَشكو منه السجناء في الجزائر: ضيقُ الغُـرَفِ ونظامُ الأكل وانعدامُ النظافة والشروط الصحية عمومًا. كما يُـعَـدُّ طول مدة الحجز المؤقت للمَحبوسين على ذمة التحقيق من أكبر الإشكاليات التي يَطرحها الحقوقيون بإلحاحٍ في الجزائر، ولم تَجِدْ طريقَها للحلِّ رغم وعود الجهات الوصية بحَـلها.
لكنْ بالمقابل، يَلقى السجناء معاملةً حسنة نسبيًّا من قِبَلِ الحُراس والإدارة، ومع بداية عَصرَنَـةِ هذه المؤسسة وتوسيعها، أصبح مسموحًا للسجناء بمُمارسة بعض النشاطات الرياضية والمهنية وحتى التعليمية ــ بدليل أنَّ عددَ الحاصلين على الشهادات التكميلية والثانوية داخل السجون في تزايدٍ مُستمر.
من خصائص السِّجن في الجزائر، استفادةُ المساجين من قرارات العفو التي تُقـلِّص عادةً بالثلث مدةَ الحكم، إلا في حالات الجرائم المتعلقة بالإرهاب والقتل العَمدي والمساس بأمن الدولة.
الاعتقالات السياسية وظاهرة التمرد في سجون الجزائر
من جانبٍ آخر، يدلُّ انعدام حالاتِ التمرد انعدامًا شبه تامٍّ، على صرامة الحراسة والإمكانيات المُسخَّرة لحماية هذه الأماكن، خاصةً بعد تجاربَ قاسيةٍ، مثل فرار مساجينَ إسلاميِّين من سجن "لامبيز" المشهور في باتـنة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وقيل أنَّ أغلـبَهم انضموا مباشرةً إلى صفوف الجماعات المُسلحة في الجبال.
هذا يجرنا إلى الحديث عن المُعتـقلات السياسية. فلقد مرتِ الجزائرُ بعدة مراحلَ في هذا المجال: ففي الستينات والسبعينات، تم اعتقالُ معارضين وإرسالهم إلى معتقلاتٍ نائية في الصحراء، أو في سجون عسكرية، مثل قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في بداية التسعينات. تَـلاه إنشاء مُحتشداتٍ في منطقة رقان الصحراوية، حُجِزَ فيها مئاتٌ من مناضلي هذا الحزب عقبَ إعلانه حالة العِصيان المدني. وهنا نُقِلَتْ شهاداتٌ عن تطبيق نظامٍ خاصٍّ ومُشدَّد جدًّا يَمنع حدوث أيِّ حالةٍ تمرد. كما أنَّ هناك شهاداتٍ عن حالات التعذيب التي تُنكرها السلطات، بل جرى حديثٌ عن حالاتٍ خاصة مثل قاتل الرئيس محمد بوضياف، المسجون في سجن سركاجي ــ الذي حدثتْ فيه محاولةُ تمردٍ أسفرتْ عن مقتل عشرات من المعتقلين.
عادتْ ظاهرةُ الاعتقالات السياسية بشكلٍ كثيف بعد اندلاع انتفاضة 22 فبراير 2019، باعتقالاتٍ مَسَّتْ عددًا من النشطاء وصلَ عددُهم إلى أكثر من 200، أُوقِـفوا بتهمة التجمهر غير المُسلَّح والتحريض على الشغب والمَساس بالوحدة الوطنية، خاصةً بعد صدور قرارٍ بمنع رفع الراية الأمازيغية في المظاهرات.
وهناك حالةٌ خاصةٌ أخرى تمس الصحفـيِّين، حتى بعد إصدار قانونٍ يمنع تجريمَ الصحافة والرأي. مع الإشارة إلى أنَّ مدةَ العقوبة تتراوح عمومًا بين أشهر وسنوات.
وفي هذا الباب دائمًا هناك حالةٌ غير مسبوقة: اعتقالات العشرات من الوزراء والوجهاء والقادة العسكريِّين ورجال الأعمال، بعضهم أُفرِجَ عنه والبعض الآخر لا يزال يَقبع في السجون. بغَضِّ النظر عن التهم المُوجهة لهم وتباين الآراء حول صِحتها ووجود قرائنَ قانونية لها ــ تؤكد كلُّ القرارات أهميةَ سُلطة العدالة في هذا البلد وقوة الردع التي يَمتلكها السجن لتَـنفيذ استراتيجيةٍ سياسية مُعينة، والتي تُغني عن الانقلابات الدموية والاغتيالات السياسية التي لا تزال تَعرفها بعضُ بلدان العالم الثالث.