SHARE
«كـلام حَبـسـجِـية»: لـكُلِّ مقامٍ مقال، وللسِّجن أيضًا!
بقلم سيف الإسلام عيد
١٨ تشرين الثاني، ٢٠٢١
ريشة الرسّام ياسين محمد
استـهلال

تقع عوالمُ السجون غالبًا بعيدةً عن أنظار العامة، وقليلٌ ما يحتـكُّ بها الناس في حياتهم اليومية إلَّا إن كانوا جزءًا من منظوماتها. ولعلَّ طبيعةَ نُظم السجون المحفوفة بالسِّرية والانغلاق تُعَـدُّ من أبرز المعضلات التي تقف أمام فَهمِ ظاهرة السجون بوصفها فضاءاتٍ حُبلى بالظواهر الجديرة بالبحث والدراسة ــ لا سِيَّما في الأوتوقراطيات التي لا تُـتيح كثيرًا من المعلومات عن مؤسساتها، وتعمل على أَمنَـنةِ كُلِّ ما يخص مؤسساتها، وخصوصًا مَكامن سُلطويـتها كالسجون والمراكز الأمنية، التي تلعبُ فيها السلطة والرقابة والعقاب دورَ الخطوط الناظمة للسياسات الحاكمة لهذه المؤسسات، وأكثرها اتِّـضاحًا: (السجون).

تَمتلئ سجون الأنظمة السلطوية، التي تعتـمد الاعتقالَ السياسي سياسةً للقمع، بالظواهر التي لا تَكشِفُ عن حجابها إلَّا لمَنْ يتفاعل معها. بوجهٍ عامّ، يُفكِّـك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو السِّجنَ بوصفه حيـزًا مكانيًّا تتـركَّز فيه سلطةُ (الدولة/النظام السياسي) من خلال نَمطَـيِ المراقبة والمعاقبة[١]، اللذَين يتـركَّزا على السجين باعتباره هدفًا واستحقاقًا لهذين النمطين من الوجود، واللذين تطـوَّرا زمنـيًّا من العلانية والمادية إلى أنهما في كثير من الأحيان أصبحَا غير مرئيَّـيـن.

يُشير فوكو في موضعٍ آخر إلى تلازم السلطة (كفعلٍ) بالمقاومة (كـرَدِّ فعل)[٢]. وإن كانت السجون (أو المشافي أو الجيوش النـظامية) فضاءاتٍ مكانية تتـركَّز فيها السلطةُ بشكلٍ كبير عبر لوائحَ وقوانين مُنظمة، وأنماط أخرى غير مُقنَّـنة (منظمة وغير منظمة) ــ فإنَّ أنماطَ المقاومة لهذه السياسات والممارسات بكافة أشكالها ستكون واضحةً إلى حدٍّ كبير. تتباين من مُقاومٍ (مسجون) إلى آخر وفق عدة عوامل، أبرزها الأنماط الشخصية والخلفية الاجتماعية وما أَودى به في السجن.

تحت مِجهر التحليل والنقد في هذا المقال، نتيجةً لمقدماتٍ غاب ذكرها، ولا حاجة لذلك طالما أنها معلومةٌ بمقتضى حال السجون المصرية وغيرها من سجون السلطويات العربية التي تعـجُّ بالمقاومين[٣]، وما فيها من نُظمٍ مُقـنَّـنة وغير مُقـنَّـنة للعقاب _وهي الأقسى_ بعضها في صورته البدائية (كالتعذيب الجسدي والرقابة العَينية)، وبعضها الآخر في صورةٍ متـقدمة (كالعين الآلية والتعذيب النفسي)، حتى يصل إلى مرحلة الإيهام بالرقابة. استدعتْ نُظم العقاب هذه أنماطًا متباينة من المقاومة الإنسانية وهي محض ردِّ فعلٍ طبيعي، وأبْـيَـنُها وأكثرها وضوحًا ما يقع على الأسماع من (لغة السجون)، ومَسكوكاتها الكلامية.

إحدى مُحاجَّات هذه الورقة، أنَّ أولَ ما يُلاحِـظه "المستجد" (ص ٦١) من أدوات المقاومة السجنية، هو لغة السجون (كلام الحَبسجِـية)[٤] ــ والتي عملَ على جَمعها وترتيـبها وشرحها بشكلٍ يُمكن وصفه بــمانفستو السجون المصرية، الصديق العزيز أحمد سعيد، وكان عمله المتكامل كـلام حبسجية: نماذج من مسكوكات السجن المصري (منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية، ٢٠١٩/٢٠٢٠، ٦٣ صفحة) هو الدافع الرئيس وراء الكتابة. 

 

مدخـلٌ إلى (لغة) السجون

للسجون مفاهيمُ واصطلاحاتٌ وتركيبات لُغوية، هي أقرب لأنْ يُطـلِق عليها غيـرُ اللسانيِّـين لغةً، تحتاج إلى تفكيكٍ وشرح ونقد. ولأنَّ كاتبَ هذه السطور كصاحبِ العمل محلِّ القراءة، كلاهما حَبسجِـيان[٥]، ذاقا من نفسِ الكأس في حاناتٍ مختلفة ــ يكون حضور الذاكرة أداةً لتَجميع المعلومات ونقدها، واجبًا ينبغي التنبيه إلى دوره. شخصيًّا، أذكر أنَّ أولى صدماتي فيما يتعلق بمسألة "لُغة السجون"، كانت في زنزانتي الأولى بقسم شرطة كفر الدوار[٦] في يناير/كانون الثاني عام ٢٠١٤، حينما ناديتُ أحدهم: "يا حاجّ" دون درايةٍ بأنها جُرم ومهانة في لسان ساكِني الزنازين من الجنائـيِّين، يُقارِب أنْ تَسُبَّ دِينَ أحدهم. ولأنَّ "حاج" بلغة أهل السجون تَعني فاقدَ القدرة الجنسية (ص ٢٧)، وكما هو معروف من أنَّ مُجتمعاتنا تتأذَّى من السبِّ والنبذ الجنسي أكثر من أيِّ نوعٍ آخر من السباب ــ فقد جـرَّتْ عليَّ نوعًا من المعارك التي لم تكن تَنقصني في يومي الأول، خاصةً بعد حفلة الاستقبال بالضرب والصعق في المباحث.

استشاطَ غضبُ صاحبنا الذي وصَفـتُه بـ "الحاجّ"، وقرَّر أنَّ الفتى المستجد خَصمه، وكاد الأمر يصل به إلى مرحلة "النَّـدب" ــ أيِ الاقتِـتال بين سجينَين تخاصمَا (ص ٦٢)، لولا تدخل بعض الخبراء بشؤون "الحبسة" الذين أفـتوا بأنَّ المستجد ولا سِيَّما "السياسي" (ص ٣٨) لا تجري عليه قوانين السجن. كما لا يجوز على المستجد أن ينامَ في "المصلب" ــ أَميَـزِ أماكن الزنزانة (ص ١٧، ٦٠)، أو "المراية" ــ البقعة الأفضل حيث تقع في واجهة الباب (ص ٥٩). ويُتـرك أهل "التخطير" ــ السجناء الأكثر خطورةً (ص ١٩) في "الصفّ" ــ البقعة الأقل رفاهيةً في زنزانةٍ مُنعدِمة الآدمية، وتقع بجانب حفرة قضاء الحاجة[٧]

صِرتُ بعد عدة أشهر خبيـرًا مُعجميًّا في لغة السجون، وحُزت على إجازةٍ فيها من أحد خبرائها[٨]. كان لديَّ شغفٌ بتعلُّم لغة الحبسجية مثل حِرصي على ممارسة اللغة الإنجليزية داخل السجن مع نَفسي ومع بعض العارفين بها، كي لا أنسى اللغةَ التي أتعلم بها في الجامعة والتي منعني عنها الاعتقال لسنةٍ دراسية كاملة.

 

كيف نَفهم "كلام الحبـسجية"؟: اشتِـباكٌ نظريٌّ وأربعُ عتـبات

حتى أُغـيِّب عن المقال روحَ الحبسجـي _التي حضرتْ بشكلٍ مُكـثَّف في القسم السابق_ وأستدعي عقلَ الباحث، أرصدُ فيما يلي أربعَ عتباتٍ نظريةٍ استَـنـبطـتُها مما قَـدَّمَهُ أحمد سعيد في كلام حبسجية، يُمكن من خلالها فهم "كلام الحبسجية" بوصفها إحدى أدوات المُقاومة التي يستعملها السجناء (السياسيون والجنائيون) للهرب من رقابة وعقاب وسلطة السَّـجّان الذي يُحاول فرض سلطته، ليس على الجسد فقط، بل عمَّا يُلفَظ من قَول.

 

العتـبة الأولى: أنها (لُغـة) جِنائـية النَّـشأة

إنْ كُـنَّا لا نعرف على وجه الدقة تاريخَ ومكانَ نشأة كُلِّ مصطلحٍ وردَ في مَسكوكات السجون، فإننا على يقينٍ من أنَّ غالبَـها قد صُكَّ من طرفِ السجناء الجنائيِّـين، وبالطبع في وقتٍ سابق على مَوجة الاعتـقالات غير المسبوقة بعد انقلاب تموز/يوليو ٢٠١٣ في مصر، وإقبال أفواجٍ من السياسيِّين على مختلف السجون ومقارِّ الاحتجاز في مصر، ومزاحمة الجنائيِّـين في وضعية التَّسيِـيف "النوم على الجانب الواحد بغيةَ توفير المساحات" (ص ٢٠) ــ في ظاهرةٍ غير مسبوقة في تاريخ مصر المنظور، والتي تتمثَّـلُ في أنْ يتشاركَ السياسيون مع الجنائيِّـين نفس الزنازين. ورغم المأرب السلطويِّ الخبيث من هذا الخلط في مساواة السياسي بالجنائي، ومُضايقة السياسيِّين بالجنائيِّـين، والزعم بأنَّ التظاهرَ والمطالبةَ بحُرية الرأي وإسقاط الانقلاب العسكري جريمةً تُساوي القتلَ والسرقة وتجارةَ المخدرات، إلَّا أنَّ هذا الاختلاطَ قد أزال الحواجزَ بين السياسيِّين والجنائيِّـين، وجعل هناك سيولةً في المعرفة بين الفريقين. وصار التعايش اضطرارًا لا خيارًا بدايةً بـتَعاضُد السياسيِّين مع بعضهم في وجه سلطة السِّجن، وهذا طبيعي رغم حدة الاستِـقطاب التي أصابتِ الثقافةَ السياسية للنخب المصرية بعد ثورة يناير/كانون الثاني ٢٠١١، ولكنَّ الأمرَ المستجدَّ _والذي كانت لغة الحَبسجية نِتاجًا له_ هوالأشكال الملحوظة من التلاحم Intersectionality التي نشأت بين السياسيِّين والجنائيين ضد سلطات السجن، باعتبار أنَّ السجناءَ على اختلاف طبقاتهم يَقعون تحت طائل السلطة. 

ورغم أنَّ غالبيةَ المعتقلين السياسيِّـين في فتـرة ما بعد انقلاب يوليو/تموز ٢٠١٣ من الإسلاميِّـين، وعلى عكس المألوف في استشعار المعتقلين السياسيين، ولا سِيَّما الإسلاميين منهم، بأفضليةٍ تُخوِّل لهم دعوةَ القطاعات الأخرى إلى صحيح الدين الإسلامي القويم الشامل ــ إلا أنه في حالاتٍ كثيرة _ومنها حالةُ لغة الحبسجية_ تلـقَّى السياسيون عن الجنائيين، وتعلَّموا مفرداتهم، واعتاد سُكان الزنازين الجُدد على عاداتِ أهل البيت، واستعاروا لغتهم للهروب من مراقبة السَّـجّان. ينبغي كذلك الإشارة إلى العلاقة النَّـفعِية بين الجنائيِّـين والسياسيِّـين، فبينما علَّم الجنائيون السياسيِّـين لغةَ السجن، وعاداته، وأعرافه المستقرة بحُكمِ طول مكوثهم فيه ــ علَّم السياسيون عددًا كبيرًا من الجنائيِّـين القراءةَ والكتابة، ولا زالت العلاقة قائمة، فلم تَنـتهِ الظاهرةُ بعد. 

لتَرحيل المعتـقَل إلى سجونٍ مختلفة أثرٌ في تنـوُّع معرفـته بمَسكوكات السجون اللغوية المتنوعة بين سجنٍ وآخر، فليست لغةُ السجون واحدةً في كُلِّ السجون المصرية، إنما هي كـلَهجات أهل المحروسة[٩] كثيرةٌ ومُتباينة. ولأنَّ سجونَ مصر متناثرةٌ على خريطتها الواسعة، ولم يستـقر عددُها عند حدٍّ مُعيَّن بعد[١٠]، يُمكن اعتبار أنَّ سجونَ الصعيد لديها قدر مختلف فيما تَحتويه من (كلام الحبسجية) عن سجون القاهرة، وسجون الإسكندرية تختلفُ عنهما. ولكنَّ اللّيـمانات، والسجون العمومية المُتـمَركزة في القاهرة تكون محطةَ لقاءٍ للهجاتٍ مختلفة، وبالتالي تكون "لغة" السجون أكثر ثراءً في سجون القاهرة، وأشهرها مُجمَّع طرة بسُجونه الأربعة، الأمر الذي يتوافق مع طابع الدولة المصرية ذات المركزية الفائـقة.

 ما قدَّمه سعيد في العمل الذي أتناولُـه هنا، ليس محصورًا بسجنٍ واحد، فـ "التأزيز والتكيِـيس: قضاء الحاجة في كيس بلاستيكي" (ص ١٧، ٢٣)،  ليسا موجودين في كلِّ السجون المصرية، وتقتصر على عدة سجون، كسجن طنطا والمنيا وبعض السجون الأخرى. و"الطيارة: السرير الهوائي المعلق والمصنوع من الحبال" (ص ٤٤) ليس موجودًا في كل السجون. خلاصةُ هذا القول أنَّ النمطَ الهندسي للسجن، وطريقةَ تسكين سُجناءه، وموقعَه الجغرافي، عواملُ تؤثر في صَكِّ مسكوكاتٍ لغوية جديدة من كلام الحبسجية. 

ولعلَّ أبرز المآخِذ على كتاب كلام الحبسجية أنه أغفلَ _عن غير قصدٍ ولظروف العمل التي أعلـمُها_ التنـوّع الجندري للمعتقلين السياسيِّين، وما يَنتـج عنه من خصوصيةٍ نسائية في لغة السجون، فلم يَذكر الكتابُ مثلًا "التُّــلّ"، وهو لباس السجينات الأبيض، ويُوازي "الكحول" (ص ٥٥) عند الرجال، أو بعض عادات السجينات التي تحوَّلتْ إلى اصطلاحاتٍ ربما لم نَتحصَّل عليها بعدُ ضمن كلام الحبسجية. ولعلَّ الظاهرةَ السجنية المُتـنامية بعد انقلاب تموز/يوليو ٢٠١٣، بما تَنطوي عليه من اعتقالٍ غير مسبوق كـمًّا وكيفًا للنساء في عهد السيسي، تَستدعي تسليط الضوء على خصوصية الظواهر السجنية النسائية الكثيفة، والتي من الحريِّ أن تُغطِّيها دراساتٌ لفهم سجون النساء بعد الانقلاب وتفكيكها تحليليًّا[١١].

 

العتـبة الثانية: أنها نابعةٌ من رغبةٍ مُقاوِمة، هاربةٍ من رقابة السَّجّان، ومُتـجـنّـبةٍ لـعقوبته، وراغبةٍ في خِداعه

اتَّفق عُرفًا في السجون بأنَّ السِّبابَ بأنواعه بين السجناء يستحق العقوبةَ من جانب سلطات السجن، وتتـنوَّع العقوبةُ بين أن تكونَ جسديةً علنـية بعد طابور الإيراد الصَّباحي[١٢]، عن طريق الضرب بالكابلات ــ وهي مجموعةٌ من الأسلاك الكهربائية التي تُستخدَم لضرب المسجون الذي قُـرِّرَ أنه مُذنب. ويُقرِّر ضابطُ المباحث كيفيةَ ومكانَ الضرب، إنْ كانَ على أسفل القدم أو راحة اليد، أو ربما على الظهر "الجَـلد"، وكذلك عدد الجَلدات، وربما بعد ذلك يُحكم عليه بالعزل في "الانفرادي" (ص ١٤) أو الترحيل من زنزانةٍ إلى أخرى.

نتيجةً لذلك، ابتكر السجناءُ هذا النمطَ اللغوي، بأن يَقـلبوا المعاني الجيدة إلى مدلولاتٍ غير جيدة، أيْ قلب الخير إلى شـرٍّ ــ في مَسكوكات السجون اللغوية، وهو ضربٌ من المقاومة لسطوة السَّجان على لسان السَّجين[١٣]. فما العقوبة على أن يقولَ سجينٌ لزميله: "إنت عَـيِّـلْ كُوَيِّـس"؟ فالجملةُ داخل السجن في ظاهرها المدح وفي باطنها الذمّ والاتِّـهام بانحراف السلوك الجنسي. ولعلّه من اللازم التذكير بأنَّ معظمَ السِّباب داخل السجن (أي لغة الحبسجية المقلوبة) تحمل في طَـيّاتها ذمًّا جنسيًّا ووَصمًا إما بالعجز، أو انحراف السلوك. حتى المخدرات، أو الأدوية التي تؤدي عملها، لها أسماء ظاهرها عاديٌّ وفي باطنها إشارة إلى أصنافٍ بعينها، كان أغربها عليَّ اسم لاعب كرة القدم السابق أبو تريكة (ص ١٣).

وقِس على ذلك منِ اصطلاحات السجون التي يُقاوم بها السَّجين سَجّانه، والتي تَعـلَّمها السياسيون من الجنائيِّـين، وزادوا عليها قليلًا. يَهرب السجينُ من محاولة السَّجّان السطوة على لسانه، فلا تكـتفِ السلطة بالسطوة على الجسد والحركة، بما يُتيحه لها فضاء السجن من أن يُراقِب واحدٌ من الحُـرّاس عشرةً من المساجين، ولكن بطرق شتى ــ بعضها بدائـي كزَرع مساجين عملاء، أو حديث مثل دسِّ أجهزة التـنصُّت.

 العتـبة الثالـثة: لم يَعُدْ "كلام الحبسجية" وصمةً يتوارى عنها أصحابها

صادفتُ منشورًا لصديقٍ عبر الفيسبوك يتحدث عن ذكرياته داخل السجن. طالعتُ التعليقات، فوجدتُ أحدَهم قد كتب يُذكِّره بموقفٍ مُضحك، ذكر فيه: "لمَّـا العصفورة وقعتْ عليك"[١٤]. دون أيِّ ترددٍ، أرسلتُ طلبَ صداقةٍ لصاحب التعليق لأنه من جماعة الحبسجية السابقين، وتبادَلنا التعارفَ السِّجني، الذي يتضمَّن: سنة الحبس، وأيَّ سِجن، والأصدقاء المشتركين. 

أَحيا "الحبسجية السابقون" في مجتمعاتهم، مُجتمعاتِ ما بعد السجون[١٥] ــ ذكرياتِ السجن بما فيها "كلام الحبسجية"، في الفضاء الإلكتروني بغير أدنى شعورٍ بالخجل، أو الوصمة الاجتماعية[١٦]. ولم يَعد هناك تواري من إطلاق تسمياتِ "حبسجي/رَدّ سجون". وأحسبُ أنَّ هذا ليس فقط إثارةً للذاكرة ودورها في كتابة تاريخ المجتمعات، بل الشجاعة والقدرة على تحمّل ما قد تَجرُّه هذه التسمياتُ من متاعبِ مُقاومةِ منظومةٍ مجتمعية ساهمتِ الدولةُ في صناعتها عبر آلتها التشريعية، وقوتها الناعمة[١٧]. إضافةً إلى إحجام المساجين السابقين عنِ الاندماج بشكلٍ طبيعي في المجتمع[١٨].

انتشرتْ مسكوكاتُ السجن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتداولَـتها حساباتُ المعتقلين السياسيِّين السابقين كجزءٍ من ذواتهم وتاريخهم، وللمُساهمة كذلك في تعريف الناس بثقافة السجون المصرية ــ هذا العالم البعيد عن عيون المصريين، والذي تركَ بصمةً في كُلِّ مَن كان جزءًا منه ولو ليومٍ واحد، وأحيانًا كنوعٍ من التندر على ما قد تجـرُّه الذاكرة.. وما أكثر ما تجـرُّه الذاكرةُ من أيام السجن! 

وفق الملاحظة المباشرة، ساعد تداولُ اصطلاحات السجون عبر وسائل التواصل الاجتماعي _أحيانًا_ في تَذويب بعضٍ من الاستقطاب السياسي والأيديولوجي بين المعتقلين السياسيِّين السابقين، ونشـر فيما بينهم نوعًا من العصبِية للحبسة، التي نشأتْ أساسًا داخل السجون، ونتاجًا عن الحوارات والمراجعات الدائمة، والإحساس بأنَّ السَّجّان خصمٌ واحد، لا بُدَّ أن يكونَ لسجينٍ واحد وليس لـفِرَقٍ من السجناء. 

ساعدتْ وسائلُ التواصل الاجتماعي، وخروجُ الكثير من المُعتقلات والمعتقلين السياسيِّين نحو المنافي، وامتلاكهم منصاتٍ ذائعة الصيت على وسائل التواصل الاجتماعي لمُخاطبة الناس دون رقابةٍ صارمة على محتوى ما يُقدِّمون _مثل بعض محطات التلفاز مثلًا_ على سهولة انتشار لغةِ الحبسجية وتداولها.

 

العتَـبة الرابعة: أنها نافذةٌ لفضاءٍ مفتوح تُمكِّن منِ استكشاف عوالمِ السجون أو تحليلها على نحوٍ جُزئي

لم تَعدْ أزمةُ العلوم الاجتماعية والإنسانية في عصر المعلومات هي قلة المعلومات، بل يُعاني باحثون مهتمون بظواهرَ اجتماعية مُعيَّـنة من كثرة المعلومات وفَيضها، حتى يصعبُ توظيفها في إنتاج المعرفة عنها. ورغم قلةِ ما يُكـتَب معرفيًّا عن السجون العربية _ولا أقول أدبـيًّا فذاك حقلٌ نَشِطٌ نسبيًّا_ نظرًا لإحاطة الأوتوقراطيات العربية سجونَها بحُجبٍ سوداء، تُعيق الباحثين من توفير معلوماتٍ تُمكِّن من إنتاج المعرفة عنها، إلا في حدود ما تَسمح به هذه السلطاتُ ووفق سرديتها[١٩] ــ إلا أنَّ مثلَ ما قدَّمَهُ هذا العمل كلام حبسجية يُمثِّـل جهدًا شاقًّا في تجميع المعلومات الثـرية وتوفيرها، ويُقدِّم مادةً يُمكن توظيفُها لإثارة عددٍ من التحليلات الجزئية لما يدور داخلَ السجون المصرية من تفاعلاتٍ ونشاطات، لا سِيَّما سوسيولوجـيًّا وأنثروبولجيًّا وسيكولوجيًّا ولسانـيًّا.

يُحيطُ مثل هذا العمل مكانـيًّا وزمانـيًّا بالمَسجون داخل عوالم السجن. وعلى عكس ما تؤخَذ به السجون بحثـيًّا كـمُتغيِّـر تابعٍ لسياسات السلطة وقوانينها، أو ذِكرها في سياق التغيُّـرات السياسية الكلية كالثورات والانقلابات التي تملأ السجون أو تُفرِّغها ــ يُمكن لمُريدي الدراسات السجنية عربيًّا أن يَدرسوا السجون كـمُتغيِّـرٍ مستقل، وأن يتمَّ تناولُ السجون على مستوياتٍ جُزئية "مايكرو" لما تَحتويه من ظواهرَ خاصة بحَيِّـزِ السجن، ومحصورة بين جُدرانه. 

 

خِـتامًا: بالطَّـبع ثـمَّة ظواهر أخرى

آثرتُ وصفَ السجون بـ "العوالم" لامتلائها بعددٍ من الظواهر غير المُشبـعة بالدراسة. ولعلَّ المهمةَ الأولية الثقيلة تقع على أصحاب التجارب، لـيُدوِّنوا ملاحظاتهم المباشرة ومذكراتهم ومشاهداتهم عن العوالم الخفية داخل السجون. فلا يُمكن الاكتفاء بتَفسير التفاعلات داخل السجن من خلال كتاب كلام الحبسجية: نماذج من مسكوكات السجن المصري، رغم أنه مدخلٌ هامٌّ ومُمهَّـدٌ للوقوف فهمًا وتفسيرًا على التفاعلات بين السياسيِّين وبعضهم، وبين السياسيِّين والجنائيِّـين، وبين السجناء جميعهم والسلطة داخل السجن. وإن كان اهتمامي ينصبُّ حقيقةً على دراسة ظاهرة انتـقال الأفكار داخل السجن وتبدّلها، إلا أنَّ هناك ظواهر أخرى تستحقُّ الدراسةَ بتعـمُّقٍ بعد عام ٢٠١٣، كالفنِّ داخل السجون، ونقاشات.

 


 

[١]Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, Alan Sheridan (trans.) (New York: Vintage Books, ١٩٧٧). 

[٢]- Michel Foucault, The History of Sexuality, vol. ١: An Introduction (New York: Random House, ١٩٧٨).

[٣]- نَستـخدم اصطلاحَ المقاومة Resistance هنا بمعنى الدفاع عن الحقوق الأولية للإنسان في مقابل فعلٍ سُلطوي، مستخدمًا أي وسيلة كانت داخل حيِّـزٍ تُحيط به السياسات السلطوية وتتحكم فيه بشكلٍ كبير، وسنُشير إلى "المساجين" أحيانًا بـ "المقاومين" وأحيانًا بـ "المعتقلين"، وأحيانًا أخرى نُبقي على اللفظة كما هي.

[٤]- ليست للسجون لغة بالمعنى الحَرفيِّ للغة المستـقلة، ولكنها مَسكوكات كلامية سيَجري تفصيلها في المقال، وسنُشير إليها بلفظة "لـغة" تسهيلًا على القارئ.

[٥]- حَبـسجـي: أيِ ارتادَ السجون المصرية.

[٦]- مدينةٌ صناعية تقع في شمال جمهورية مصر العربية، وبها قسم شرطةٍ كان يضم آنذاك ٣ زنازين، وُضِعتُ في أصغرها وكانت زنزانةً صغيرةَ الحجم، طولًا ٢ متر ونصف المتر، وعرضها ٨٠ سنتيمتـرًا، ضمَّتْ آنذاك ١٦ معتقلًا ووصلتْ حتى ٢٣ في بعض الأحيان. 

[٧]- لم تردِ لَفـظةُ (الصف) في كتاب كلام حبسجية.

[٨]- كان مسجونًا قد مضى عليه في السجن عشر سنوات، قابَلـتُه في سجن دمنهور العمومي الشهير بـ "الأبعادية"، وكان في بداية الأمر ساخطًا على السياسيِّين، ولا سِيَّما طلبة الجامعات منهم، ثم انبلَجتْ أساريره بعدما وجَدنا نعتاد على لغة السجون ونتداولها فيما بيننا كالسجناء المعتـقين. 

[٩]- تعبيـرٌ يستخدَم للإشارة لمصر.

[١٠]- ازدادتْ أعدادُ السجون في مصر بشكلٍ ملحوظ بعد مَجيء نظام عبد الفتاح السيسي. بلغتْ إلى وقتِ كتابة هذه السطور ٤٢ سجنًا، تتـنوَّع بين الليمانات والسجون العمومية والمركزية ومقار الاحتجاز، بالإضافة إلى مقارِّ احتجازٍ سِريّة لم تُحْـصَ بشكلٍ دقيق بَعدُ. 
للمزيد، يُنظر: 

“Egypt: Sisi Set to Open Country's Biggest Prison,” Middle East Eye, ١٦/٩/٢٠٢١, accessed on ١٥/١٠/٢٠٢١, at: https://bit.ly/٣٠pVROI 

ولمزيدٍ حول تقسيمات وأنواع السجون، يُنـظَر: "تشريعاتُ السجون المصرية"، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ١٩/١٢/٢٠١٦، شوهد في ١٥/١٠/٢٠٢١، في: https://bit.ly/٢YUrako 

[١١]- للمزيد بشأنِ الانتـهاكات النسائية داخل السجون المصرية بعد الانقلاب، يُنظر: 

“’What Do I Care if You Die?’: Negligence and Denial of Health Care in Egyptian Prisons,” Amnesty International (London: ٢٠٢١), accessed on ١٥/١٠/٢٠٢١, at: https://bit.ly/٣FNJOLt 

تَجدر الإشارة كذلك لأطروحةٍ مهمة عن "آلة المعتـقل" للباحثة المصرية هـنّا السيسي العشماوي:

Hannah Elsisi Ashmawi, “Muʿtaqal Machine: Power, Gender and Identity in Egypt’s Political Prisons, ١٩٤٨-١٩٨١,” PhD. Dissertation, Faculty of History, University of Cambridge, Cambridge, ٢٠٢٠.

منـى النجار ويسر الحلو واليـزا أوفريكتيج، "متى يُشكِّـل التفتيش تجاوزًا"، نيورك تايمز، ٥/٧/٢٠٢١، شوهد في ١٥/١٠/٢٠٢١، في: https://nyti.ms/٣n١v٩٦H 

[١٢]- وهو طابور يُعرَض فيه الخارجون من غرفة الإيراد أمام ضابط المباحث، في بعض السجون يُعتـمَد عرضهم شبه عرايَا وعلى هيئة الجثو أمام ضابط المباحث ومن ثمَّ يُقـرِّر في مصيرهم، إن كانوا مُذنبين يُحالون إلى العقاب. ويُحدِّد ضابطُ المباحث أيضًا نوعَ العقاب.-

[١٣]- يُذكِّرنا هذا بكتاب: جيمس سكوت، المُقاومة بالحيلة: كيف يَهـمس المحكوم وراء ظهر الحاكم، ترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري (بيروت: دار الساقي، ١٩٩٥).

[١٤]- العصفورة: أداةٌ لـتَعليق الأشياء داخل الزنزانة (ص ٤٥).

[١٥]- للمزيد عن مُجتمعات �


SHARE