في مِصر، وعلى مَـرِّ العقود الماضية التي نشأتْ فيها السجون وتوسَّعت، يذوب السجينُ داخل الفضاء السِّجنـي، بعدما هُندسَ لـيَكون تسـلُّطًا على حياته المَرئية بأنماطِها الجديدة، عن طريق الإخضاع التام، فضلًا عن مَحوِ كينونة الإنسان السَّجين، وتحويله إلى ذاتٍ جَامدة مُطـوَّعة لـأوامر السُّلطة من خلال تـقـنِياتها الحياتـيَّة. هذا بالنسبة للسَّجين الجنائي والسياسي دون تَفرقة، ما يترتَّبُ على ذلك صعود أفكارٍ ونَفسياتٍ ومُمارساتٍ متداخلة ومُتـمَأسسَة عند البعض، نحو «تيـهِ الانتِـماء إلى الوطن»، وعدم الشعور بالسعادة تجاه أيِّ إنجازٍ يُحقِّقه، ولا الحزن في حالِ خُسرانه؛ وهذا ما يَأتـي ضمن دوافعَ عديدة، يلتـقـي السجين السياسي والجنائي في بعضها ويتمايَـزان في أخرى. ومن هنا نتساءل: كيف يُفكِّـك السجنُ انتـماءَ السَّجين إلى الوطن؟
على مَـرِّ العقود، ترسَّختْ صورةُ السَّجين الجنائي، في مُخيِّـلة الشعب المصري، على أنه شخصٌ يتمـتَّع بالبَلطجة والتجـبُّـر على الآخر. بالإضافة إلى أنه دخلَ السِّجن، الفضاء الذي يخاف منه الناس، ويَنـبذون مَن دخله من قَبل. هذه الصورة في مُخـيِّلة الناس، ساعدَ في تَرسيخها أدواتٌ ثقافية كثيرة، مثل التعليم والفنّ، من خلال السينما والدراما، لِما تُجسِّده في مُعظم شاشاتها من تجريدٍ كامل لإنسانيةِ وصورةِ السَّجين الجنائي، عبر تَصويره كوحشٍ لا يَعرف الإنسانية، مُدمِـنٍ للمخدرات، عاشقٍ للسرقة والاغتصاب والقتل؛ إلى غير ذلك من أدواتٍ ثقافية شائعة مثل لقاءات البرامج التلفزيونـية والحوادث الإخبارِية[1].
«مِخـيالُ» النَّـبذ المُجتـمعي، بالتوازي مع تِقـنيات السلطة السِّجنِـية النابــذة أيضًا لوجوده الإنساني، تجعلُ السَّجينَ يَسعى كلَّ السَّعـيِ من أجل نَشلِ ذاته من الاستِـبعاد الإنساني الذي حلَّ به، فـيَبدأ في ممارساتٍ عدة من أجل الانتماء إلى شيء ما، تَنـتمي إليه السلطةُ والمجتمع أيضًا، لكي ينالَ الاعتراف بوجوده، فيما يُعرف بـ «النِّـضال من أجل الاعتـراف» The struggle for، كما يُسمِّيه عالم الاجتماع الألماني أكسل هونيث [2]. حيث لا يجد السجينُ أيَّ شيء، يَنـتـمي إليه ويُحقِّق له هذا الاعتراف سوى الوطن بمَعناه المُجـرَّد. لكنَّ أدوات السجين المُمارساتِـيَّة مَحدودة بسبب الفضاء السِّجني المُحاصِر لها، فلا يَتـبقَّى له سوى التجمُّع أمام تلفازِ أو راديو السجن، لـتَشجيع الفريق الوطني لكرة القدم في بطولةٍ ما، أو يَفرح من أجل إنجازٍ قومـيٍّ أحدثَــته البلاد، مثل حفر أو توسيع قناة السويس، أو القيام بضَربةٍ مُهاجمة أو دفاعية على عدوٍّ ما، أو قرارٍ رئاسي يخصُّ عامةَ المواطنين داخل الوطن. لكن مع الوقت، قد يملُّ السجين من هذه الممارسات، إذا أحسَّ أنه لا فائدةَ منها، وأنه قُـدِّرَ له النبذ والاستبعاد وعدم نيل الاعتراف والمكانة لذاته وسط الذوات والكيانات الأُخرى، وربما يَنعكس ذلك على كُرهِهِ للوطن، بعدما كَرِه ذاته المنبوذة ــ ما يجلب نهايةً التعاسة الدائمة، ويؤدي في بعض حالاتٍ إلى الانتـحار [3]، فيما يُعرِّفه عالم الاجتماع الفرنسي دور كايم بـ «الانتـحار القدري» Fatalistic suicide.
أما السَّجين السياسي، فإنه يَتـفـق ويختـلف، في عدة دوافعَ مع قرينه الجِـنائـي، إذ يتـفقُ معه أنه أُخضِعَ إلى ممارساتِ السلطة من أجل تدجين السيطرة والإخضاع وهندسة الجسد ضمن حياةٍ مَرئـية. ويختلف في أسبابِ سَجـنه من الأساس، إذ قـرَّرتِ السلطةُ عزلَ السجين السياسي، لأنه تبنَّـى فكرةً أو ممارسةً تُعارضها، لذلك قررتِ استـثـناءَه من الحياة الاجتماعية وعزله في سجن، لاستكمال إدارة نظام الحكم دون مُعارضةٍ فكرية أو حرَكية. هذه الفكرة، ربما تكون من الأساس قائمةً على حُبِّ الوطن، بل والسعي من أجل إصلاح مسار نظام الحكم الخاص بالدولة، والذي لا يَتـقـبَّـلُها الحاكم، ويتخذ من أدواته القمعية طريقًا لـمَحو هذا الإصلاح ومُتـبـنِّيه.
وسطَ هذا التخـبُّط، يقف السجين السياسي بين جَدلية الانـتـماء، في حيرةٍ بين أن يفصل بين الوطن ونظام الحُكم أم يَخلط بينهما. الوطن الذي أحبَّ أن يُصلِحه وناضلَ من أجل ذلك، بل ودفعَ ضريبة هذا النضال من حُريـته وعمره، أم يبدأ في كُرهه لما تسبَّب في مَأساته الحياتِـية الواقعة عليه في حاضره. مثلًا، فقد رأى الكثيرون الانقسامَ الذي يحدث بين السجناء السياسيِّين عند لعب الفريق الوطني في بطولةٍ ما، خاصةً بطولتَـيّ كأس الأمم الإفريقية وكأس العالم، إذ يَنقـسِمُ السياسيون إلى جبهتيـن: جبهة تُشجِّع المنتخب على أصوات الراديو، وتتـمنَّى له الفوز، وجبهة أُخرى تتمنَّـى له الخسارة. ويتواجد أيضًا، الكثيرون الذين لا يهتمون من الأساس لا بـكُرَةِ القدم ولا بالنتائج، وتقوم السِّجالات والنقاشات التي تصل إلى المُشاجرات بينهم بسبب ذلك.
السياسيون الذين يُشجِّعون ويتـمـنون الفوز للمنـتخب، فضَّلوا الفصلَ بين الوطن ونظام الحكم، بل ويعتبرون الفوزَ إنجازًا وطنـيًّا خاصًّا بلعبةٍ رياضية، إنجازًا يَنـتمي إلى مصر، الاسم والمكان والزمان والوطن الذي تربّـوا فيه وانتموا إليه. أما الآخرون، فـيَكون الأمر لديهم مختلفًا، على أساس بضعةِ دوافعَ فكرية، واقعِـية، ونفسِية، كما الحال مع _بـعـض_ السياسيين الإسلاميين، الذين تَنـتمي أفكارهم إلى أيديولوجيةٍ دينية، تقول أنَّ انتماءَهم الأول للدين، ومن بعده يأتي الوطن أو لا يأتي، ليس مُهمًّا.
واقعـيًّا، فإنَّ استغلال النظام السياسي الحاكم أيّ فوزٍ فـنِّـي أو رياضي _ وهو ما يَحدث بنِسَبٍ مُتـفاوتة في كلِّ أنظمة العالم_ بل ونَسبه لـنفسه كإنجازٍ سياسيٍّ كما هو سائد مؤخرًا ــ يجعلُ من السجناء السياسيِّين غاضبين حيال ذلك، ولا يتـمنون تحقيقَ هذا الإنجاز، لأنهم يَحلمون بـسُقوط النظام الحاكم، فكيف يسقط وهو يَنسِب لـنَفسه أيَّ إنجازٍ أيًّـا كان مجاله؛ وبذلك يُبـرهِن على نجاحه واستقراره أمام المجتمع والعالم. وقد بَـرع النظامُ السياسي المصري في هذا الصدَد، إذ أنَّ مؤتمراته السياسِية لا تَخلو أبدًا من وجود النخبة الفَـنـية والرياضِية، بل وتُـتـرجِم سردياته السياسِية والتأريخـية للماضي، في شكلٍ سينمائي ودرامـي بواسطة النخبة الفَـنية، في تَحولٍ دائم ومُستمرٍّ نحو ذواتٍ فنية سياسية، لكنّها مُطيعة للسلطة وسَردياتها [4].
أما على المستوى النفسي، فـيَشعر السجين أنَّ تَضحِيـتَه ذهبتْ هباءً، عندما يُدرك أنَّ الاجتماعات الخارجية عن عالم السجن لا تَشعر بمُعاناته، بل ولا يُـهـمها أن تعرفَ عن هذه المعاناة، وجُلَّ حياتها اختصرتْ على الاستهلاك السائل، بعيدًا عن الأفكار والسياسة والإصلاح؛ وبذلك تُكـوِّن نفسيةً بائسة لدى السجين، بل وحاقدة على هذه الاجتماعات، وربما نادمة على أنها ضحَّـتْ من أجل إصلاح شيءٍ ما، من أجل اجتماعاتٍ لا يُهمّها هذه التضحية ــ فـيَبدأ مشواره نحو كره الوطن، فضلًا عن اجتماعاته المُتـباينة. بل وأحيانًا مع شِدة الحياة البائسة التي يعيشها، تتجلَّى له أفكارٌ عدائيـة تجاه النظام والمجتمع، ربما تتـبلور في أغلفةِ أفكارٍ دينـيّة تكفيرية، كما حدث مع الكثيرين، إثر تحولات، تُساعِدها استِـقـطاباتُ أفرادِ تنظيم الدولة الإسلاميّة، وتُحوِّلها إلى ممارساتٍ عقَـديّة أو حرَكـيّة بعد خروج السجين إلى المجتمع مرّةً أخرى [5].
أيضًا في الخارج، يَنمو شعورُ كرهِ الوطن لدى فئاتٍ كثيرة منبوذة، أجساد مُهروَلة مَقـهورة، مُعذَّبة في الأرض، على حدِّ تعبير الفرنسي فرانز فانون [6]، بسبب فقرها، وعدم انتمائها إلى الطبقات العليا من السلطة وذَويها، وعدم وجودها ضمن تَمظـهُرات النيو-ليبـرالية، المَهووسة بالاستهلاك، في مِعماريّات الحداثة، المُتـجسِّدة في الفنادق، المولات، المدن الجديدة، الشواطئ، والقرى السياحيّة.. وغير ذلك من الشَّكـلِيات الواقعية التي تحدث، تاركةً رويدًا رويدًا أثـرًا كبيرا لدى تلك الفئة غير القادرة على اللَّحاق برَكب الاستهلاك المُتدفق عليهم ــ ما يُسبِّب لهم عقدة نقص.
وتلك هي أولى خطوات الإخضاع التي يلبـسها هذا العنفُ الرمزي القائم على الأرواح المَنـبوذة ــ ما يُسبِّب أيضًا، كرهًا ونبذًا للوطن، من الأجساد المَقهورة _غير السّجنِـية_ بمفهوم الحُرية المُجرَّد؛ وهذا لأنَّ النخبةَ السلطوية الحاكمة حصرَته في تَمظـهُراتٍ بـعَينها لا يُمارسها إلا ذوي السلطة والمال فقط [7].
هــوامـــش:
1- ساعدتْ مُعـظم الأعمال الفنـية منذ بَـدئها بشكلٍ كبير، في وجود هذا «المِـخـيال» النابِـذ للسُّجـناء، بل وانتِـشالهم من ذواتهم الإنسانـية وتَطويعهم ضمن فئاتٍ لا-أخلاقـيةٍ نخافُ ونبـتـعد عنها، ما يَستوجب على السلطة عزلها أو الخلاص منها.
2- للمزيد حول المَرئي واللا-مَـرئي، انـظُر: أكسل هونيث، الصِّراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمَآزم الاجتماعية. ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، ط1 بيروت 2015.
3- إميل دوركايم، الانتـحار، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، ط1 دمشق 2011، ص 170، 265، 301.
4- دائمًا ما يَحضر الفنانون المؤتمرات السياسية، خاصةً ما يُسمَّى بمؤتمرات الشباب، ولا يقتـصر حضورهم على التفـرُّج فقط، بل يُشاركون بكلماتٍ وأغنيات افتـتاحية، لإحياء العرس السياسي القائم. أيضا بُـثَّـتْ عدةُ أعمالٍ درامية وسينمائية تتحدث بسردية السلطة عن أحداثٍ في الماضي القريب، تُجسِّد نزاعَ السلطة مع فصيلٍ سياسي، هو منبوذ الآن من قِبَـلِـها، ناهيك عن تصريحاتِ الفنانين بشكلٍ دائم نحو حثِّ المصريين على مساندة السلطة، بل وشَتمهم وتحريضهم على أيِّ أحدٍ يُحاول معارضةَ النظام.
5- عبد الرحمن عياش، تنظيمٌ قوي وإيديولوجيا ضعيفة: مسارات الإخوان في السجون المصرية بعد 30 يونيو، مبادرة الإصلاح العربي، نُشر في أبريل 2019. للمزيد انظُر أيضا:
Like a Fire in a Forest: ISIS Recruitment in Egypt’s Prisons, Brian Dooley, Human Rights First, 25 February .2019
6- فرانز فانون، مُعذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، مدارات للأبحاث والنشر، ط1 القاهرة 2014.
7- مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9 المغرب 2005، ص 45.